فصل السين المهملة مع الراء
  قال شَيْخُنَا: زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ كَلَامَ المُصَنِّف فيه تَنَاقُضٌ، فكان الأَوْلَى في الأُولَى: حتَّى يَصرِفَ قُلوبَ السامِعِين إِليه. وفي الثَّانِيَة: حتّى يصرف قُلُوبَهُم عنه، لكن قَولَه «أَيضاً» يُحَقِّق أَنّ كُلًّا منهما: حتَّى يَصْرِف قُلوبَ السَّامِعِين.
  والمُرَاد أَنه بفَصَاحَتِه يَصِير النَّاسُ يتَعَجَّبُون منه مَدْحاً وذَمّاً، فتنصرف قلوب السامعين إِليه في الحالَتَيْن، كما قاله المصنّف. ولا اعْتِدادَ بذلِك الزَّعْمِ. وهذا الَّذِي قاله المُصَنّف ظاهِرٌ وإِن كان فيه خَفاءٌ. انتهى.
  قُلتُ: لفظة «أَيضاً» ليست في نصّ أَبِي عُبَيْد(١)، وإِنما زادَهَا المُصنِّف من عنده، والمفهوم منها الاتّحاد في الصَّرْف، غير أَنّه في الأَوّل: إِليه، وفي الثاني: عنه إِلى قولِه الآخر والعبارة ظاهرةٌ لا تناقُضَ فيها، فتأَمَّل.
  وقال بعضُ أَئِمَّة الغَرِيب، وقيل: إِنّ معناه إِنَّ مِنَ البَيَانِ ما يَكْتَسِب من الإِثْمِ ما يَكتَسِبه الساحِرُ بسِحْرِه، فيكون في مَعْرض الذَّمّ. وبه صَرَّحَ أَبو عُبَيْد البَكْريّ الأَنْدلُسِيّ في شَرْح أَمثال أَبِي عُبَيْد القَاسِم بنِ سَلَّام، وصَحَّحَه غَيْرُ واحدٍ من العُلماءِ، ونَقَله السّيوطيّ في مرقاة الصُّعود، فأَقَرَّه، وقال: وهو ظَاهِرُ صَنِيع أَبِي دَاوودَ.
  قال شيخُنَا: وعندي أَنَّ الوَجْهَيْن فيه ظَاهِرَانِ، كما قال الجَمَاهِيرُ من أَربابِ الغَرِيبِ وأَهْلِ الأَمثال.
  وفي التَّهْذِيب: وأَصْلُ السِّحْر: صَرْفُ الشَّيْءِ عن حَقِيقَته إِلى غَيْرِه، فكأَنّ السَّاحِرَ لمّا أَرَى الباطِلَ في صُورةِ الحَقِّ، وخَيَّل الشَّيْءَ على غيرِ حَقِيقَته فقد سَحَرَ الشَّيْءَ عن وَجْهِه، أَي صَرَفه.
  ورَوَى شَمِرٌ عن ابْنِ أَبِي عائِشَةَ(٢) قال: العرب إِنَّما سَمَّت السِّحْرَ سِحْراً لأَنه يُزِيل الصِّحَّة إِلى المَرَض، وإِنما يقال: سَحَره، أَي أَزالَه عن البُغْض إِلى الحُبّ. وقال الكُمَيْت:
  وقَادَ إِلَيْهَا الحُبَّ فانْقَادَ صَعْبُهُ ... بِحُبٍّ من السِّحْرِ الحَلَالِ التَّحَبُّبُ
  يريد أَنَّ غَلَبَةَ حُبِّها كالسِّحر وليس به؛ لأَنَّه حُبٌّ حَلَالٌ، والحَلال لا يكون سِحْراً، لأَن السِّحْر فيه كالخِدَاع.
  قال ابنُ سِيدَه: وأَما قولُه ﷺ: «مَنْ تَعَلَّم باباً من النُّجُوم فقد تعَلَّم بَاباً من السِّحر» فقد يكون على المعنَى الأَوَّلِ، أَي أَن عِلْمَ النُّجُومِ مُحرَّمُ التَّعَلُّمِ، وهو كُفْرٌ، كما أَنّ عِلْمَ السِّحْرِ كذلك. وقد يكون على المَعْنَى الثاني، أَي أَنه فِطْنَةٌ وحِكْمَةٌ، وذلِك ما أُدْرِك منه بطريقِ الحِسَابِ كالكُسُوف ونَحْوِه، وبهَذَا عَلَّلَ الدِّينَوَرِيُّ هذا الحدِيثَ.
  والسَّحْرُ، بِالْفتح أَيضاً: الكَبِد وسَوادُ القَلْبِ ونَوَاحِيه.
  وبالضَّم: القَلْبُ، عن الجَرْمِيِّ، وهو السُّحْرَةُ، أَيضاً. قال:
  وإِنِّي امرؤٌ لم تَشْعُرِ الجُبْنَ سُحْرَتِي ... إِذَا مَا انْطَوَى منِّي الفُؤَادُ على حِقْدِ
  وسَحَرَ، كمَنَعَ: خَدَعَ وعَلَّلَ، كسَحَّرَ تَسْحِيراً. قال امرؤُ القَيْس:
  أُرَانا مُوضِعِينَ لأَمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعَامِ وبِالشَّرَاب
  قوله: مُوضِعِين، أَي مُسْرِعِين. وأَراد بأَمْرِ غَيْبٍ الموتَ.
  ونُسْحَر أَي نُخْدَع أَو نُغَذَّى: يقال سَحَرَه بالطَّعَام والشَّرابِ سَحْراً وسَحَّرَهُ: غَذَّاه وعَلَّلَه.
  وأَما قَوْلُ لَبِيد:
  فإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْن فإِنَّنَا ... عَصَافِيرُ من هذا الأَنَامِ المُسَحَّرِ
  فإِنه فُسِّرَ بالوَجْهَيْن. وكذا قوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}(٣) من التَّغْذِية والخَدِيعَة.
  وقال الفَرَّاءُ: إِنّك تَأْكُل الطعَام والشَّرَاب فُتَعلَّلُ به.
  وفي التَّهْذِيب: سَحَر الرَّجلُ، إِذا تَبَاعَدَ.
  وسَحِرَ، كسَمِع: بَكَّرَ تَبكِيراً.
  والمَسْحُورُ: المُفْسَدُ مِن الطَّعَامِ. وهو الذي قد أُفِسد عَمَلُهُ. قال ثعلب طَعامٌ مَسْحُورٌ: مَفْسُودٌ. قال ابنُ سِيدَه:
(١) نص أَبي عبيد كما في التهذيب: حتى يصرف القلوب إلى قوله الآخر.
(٢) في التهذيب واللسان: ابن عائشة.
(٣) سورة الشعراء الآية ١٥٣.