تاج العروس من جواهر القاموس،

مرتضى الزبيدي (المتوفى: 1205 هـ)

[سده]:

صفحة 45 - الجزء 19

  ومِثْلُه قَوْلُهم: ضِقْتُ به ذَرْعاً وطِبْتُ به نَفْساً، والمعْنَى: ضاقَ ذَرْعِي به وطابَتْ نَفْسِي به، انتَهَى.

  * قُلْتُ: وهذا القَوْلُ أَنْكَرَه النّحويُّونَ، وقالوا: إِنَّ المُفَسِّراتِ نَكِرَاتٌ ولا يَجوزُ أَن تُجْعلَ المَعارِفُ نَكِرَاتٍ.

  أَو نَسَبَه إِليه؛ هذا القَوْلُ فيه إِشارَةٌ إِلى قَوْلِ الأَخْفَش، فإِنَّه قالَ: أَهْلُ التَّأْوِيل يَزْعمونَ أَنَّ المَعْنَى سَفَّه نَفْسَه، أَي بالتَّشْديدِ بالمعْنَى المذْكُور؛ ومنه قَوْلُه: إِلَّا مَنْ سَفِهَ الحَقَّ، معْناهُ: مَنْ سَفَّه الحقَّ.

  وقالَ يونُسُ النّحويُّ: أُراها لُغَةٌ ذَهَبَ يونُسُ إلى أَنَّ فَعِلَ للمُبالَغَةِ، فذَهَبَ في هذا مَذْهَبَ التَّأْوِيلِ، ويَجوزُ على هذا القَوْلِ سَفِهْتُ زيْداً بمعْنَى سَفَّهْتُ زيْداً.

  أَو أَهْلَكَهُ، فيه إِشارَةٌ إِلى قَوْلِ أَبي عبيدَةَ فإِنَّه قالَ: معْنَى سَفِهَ نفْسَه أَهْلَكَ نَفْسَه وأَوْبَقَها، وهذا غَيْرُ خارِجٍ مِن مَذْهَبِ يونُسَ وأَهْل التّأْوِيل.

  وقالَ بعضُ النّحويِّين في قوْلِه تعالى: {إِلّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}⁣(⁣١)، أَي في نَفْسِه أَي صارَ سَفِيهاً، إِلَّا أَنَّ «في» حُذِفَتْ كما حُذِفَتْ حُرُوفُ الجَرِّ في غيرِ مَوْضِعٍ.

  وقالَ الزَّجَّاجُ: القَوْلُ الجَيِّدُ عنْدِي في هذا: أَنَّ سَفِهَ في مَوْضِعِ جَهِلَ، والمعْنَى، واللهُ أَعْلَم، إِلَّا مَنْ جَهِلَ نَفْسَه، أَي لم يُفَكِّرْ في نَفْسِه فوَضَعَ سَفِهَ في مَوْضِعِ جَهِلَ، وعُدِّيَ كما⁣(⁣٢) عُدِّيَ.

  قالَ الأَزْهرِيُّ: وممَّا يُقوِّي قوْلَ الزجَّاجِ الحدِيثُ: «إِنَّ الكِبْرَ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وتَغْمِطَ الناسَ»، فجعَلَ سَفِهَ واقِعاً مَعْناه أَنْ تَجْهَلَ الحَقَّ فلا تَراهُ حَقّاً.

  ويقالُ: سَفِهَ فلانٌ رأْيَه إِذا جَهِلَهُ وكانَ رأْيُه مُضْطرباً لا اسْتِقامَةَ له.

  وفي الحدِيثِ: «إِنَّما البَغْيُ مِنْ سَفِهَ الحقَّ»، أَي مَنْ جَهِلَه، وقيلَ: مَنْ جَهِلَ نَفْسَه، وفي الكَلامِ مَحْذوفٌ تَقْديرُه إِنَّما البَغْيُ فِعْلُ مَنْ سَفِهَ الحقَّ. ورَوَاهُ الزَّمَخْشريُّ: مِن سَفَهِ الحَقِّ، على أَنَّه اسمٌ مُضافٌ إِلى الحقِّ، قالَ: وفيه وَجْهان: أَحَدُهما: أَنْ يكونَ على حَذْفِ الجَارِ وإيصالِ الفِعْل كأَنَّ الأصْلَ سَفِهَ على الحقِّ، والثاني: أَنْ يَضْمَنَ معْنَى فعل متعدِّ كجَهِلَ، والمعْنَى الاسْتِخْفاف بالحقِّ وأَنْ لا يَراهُ على ما هو عليه مِنَ الرُّجْحانِ والرَّزانَةِ.

  ومِن المجازِ: سَفِهَتِ الطَّعْنَةُ سَفْهاً: أَسْرَعَ منها الدَّمُ وجَفَّ⁣(⁣٣)؛ كما في الأساسِ.

  ومِن المجازِ: سَفِهَ الشَّرابَ سَفْهاً: إذا أَكْثَرَ منه فلم يَرْوَ.

  وحَكَى اللّحْيانيُّ: سَفِهَ الماءَ شَرِبَه بغيرِ رِفْقٍ.

  وسَفِهَ، كفَرِحَ وكَرُمَ، علينا؛ الأوْلى أَنْ يقولَ: سَفِهَ علينا، كفَرِحَ وكَرُمَ؛ جَهِلَ، كتَسافَهَ، فهو سَفِيهٌ، ج سُفَهاءُ وسِفاهٌ، بالكسْرِ، وهي سَفِيهَةٌ، ج سَفِيهاتٌ وسَفائِهُ وسَفَّهٌ، كسُكَّرٍ، وسِفاهٌ، بالكسْرِ.

  وقَوْلُه تعالَى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً}⁣(⁣٤).

  قالَ اللّحْيانيُّ: بَلَغنا أَنَّهم النِّساءُ والصِّبْيان الصِّغارُ لأنَّهم جُهَّالٌ بموْضِعِ النّفَقةِ.

  قالَ: ورُوِي عن ابنِ عبَّاسٍ، رضِيَ اللهُ تعالى عنهما، أَنّه قالَ: النِّساءُ أَسْفَهُ السُّفَهاءِ.

  وقالَ الأزْهرِيُّ: سُمِّيت المرْأَةٌ سَفِيهَة لضعفِ عَقْلِها، ولأنَّها لا تُحْسِنُ سِياسَةَ مالِها، وكَذلِكَ الأَوْلاد ما لم يُؤْنَس رُشْدُهم.

  وقوْلُه تعالَى: {فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً}⁣(⁣٥)؛ السَّفِيهُ: الخَفِيفُ العَقْل.

  وقالَ مُجاهِد: السَّفِيهُ: الجاهِلُ، والضَّعِيفُ: الأحْمقُ.

  قالَ ابنُ عَرَفَة: الجاهِلُ هنا هو الجاهِلُ بالأَحْكامِ لا


(١) البقرة، الآية ١٣٠.

(٢) أي على المعنى، كما يفهم من عبارة التهذيب.

(٣) في الأساس: وخفّ.

(٤) النساء، الآية ٥.

(٥) البقرة، الآية ٢٨٢.