كتاب الأسرار
  فإن قال: ولم نهاهم عن إخراج أموالهم كلها وقد وعدهم أنهم إذا أنفقوها فهو يخلفها فقال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ}[سبا: ٣٩].
  [قيل له](١): أنه أراد ما أنفقتم من شيء فهو يثيبكم عليه، أن لكم الثواب في الآخرة لديه، وربما أثاب في هذه الدنيا أحسن الثواب مع السلامة من السخط والعقاب، والله سبحانه لا يكلف عباده ما لا يقدرون على فعله، وذلك دليل على رحمته وفضله ورأفته وعدله، بل كلفهم أيسر اليسير ونهاهم عن البخل والدناءة والتقصير، ومن أنفق من ماله أكثر الكثير فهو أفضل من المنفق اليسير، ومن بخل ولام على الحطام الحقير فهو كافر فاجر في حكم الله اللطيف الخبير.
  وأما قوله سبحانه: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦}[الإسراء: ٢٦] فلم ينه نبيه ~ وعلى آله من انفاق ماله، وإنما نهاه عن تبذير اموال المساكين وطرحها جملة كأفعال إخوان الشياطين الذين يرمون بأموال الأيتام ويبذرونها على غير أهلها من الأنام ألا تسمع إلى أول خطابه وما ذكر في أول الآية من آدابه حين يقول: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ٢٦} إلى قوله: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ٢٩}[الإسراء: ٢٦ - ٢٩] يريد لا تلزم يدك على الإنفاق ولا تبسط يدك مرة واحدة فتقعد ملوماً عند الله محسوراً منقطعاً، كما أخرجت أموال عباد الله وصرت لهم دافعاً وتصير بذلك أيضاً ملوماً عند جميع الآدميين وتنحسر
(١) بياض في المخطوط وما بين المعكوفين اجتهاد من لدينا لاستقامة المعنى.