[الباب الثالث: العموم والخصوص]
  (قيل) في الاحتجاج للمانعين: لا شك أن الاستثناء خلاف الأصل، فإنه بمنزلة الإنكار بعد الإقرار، ولكن خالفنا هذا الأصل في الأقل وجوزنا استدراكه بالاستثناء لأن (الأقل) قد (ينسى) لقلة التفات النفس إليه (فيستدرك) وهذا المعنى مفقود في المساوي والأكثر.
  (قلنا:) لا نسلم فقدانه فيهما (و) لكنه (قد ينسى الأكثر) كما إذا كان على إنسان ألف درهم وقد قضى من ذلك تسعمائة وتسعة وتسعين وينسى أنه قد قضى ذلك فيقر بألف، ويذكر في الحال القضاء فيستدركه بالاستثناء، وإن كان الأكثر نسيان الأقل، على أنه لو كان ما ذكروه صحيحاً لما صدر من الرسول ÷ وأجمع عليه علماء الأمصار(١).
(قوله): «لا نسلم فقدانه» أي: هذا المعنى «فيهما» أي: المساوي والأكثر.
(قوله): «ولكنه قد ينسى الأكثر» ينظر في صحة الاستدراك[١] عما قبله، فإنه موافق في المعنى لما بعده، ولو قال: وذلك أنه قد ينسى الأكثر لكان أولى.
(١) في شرح ألفية البرماوي: أنكر بعض أهل اللغة ورود مثل ذلك في اللغة، وأن ما استدل به المجوزون من قوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ٤٠}[الحجر] مع قوله: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ٤٢}[الحجر] فاستثنى كل واحد منهما من الآخر، وأيهما كان الأكثر حصل به الاستدلال - يجاب عنه بجوابين: أحدهما: أن الاستثناء للمخلصين إنما هو من بني آدم، ولا شك أنهم أقل من الباقي، واستثناء الغاوين من جميع العباد، وهم الأقل؛ فإن الملائكة من عباد الله؛ لقوله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ٢٦}[الأنبياء]، وهم غير غاوين، وفي الحديث: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها قدر أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته ساجداً لله تعالى»، وقال الله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}[المدثر: ٣١]. وكذا قوله تعالى فيما رواه مسلم وغيره من حديث أبي ذر: «يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ..» الحديث مع أن المطعمين أكثر يجاب عنه بأن الملائكة من جملة العباد، ولا يوصفون بجوع وإطعام. ثانيهما: أن الاستثناء في: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ٤٢}[الحجر] منقطع بمعنى «لكن»؛ بدليل الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي}[إبراهيم: ٢٢].
(*) فإنه مبني على أن سببية الاستثناء منحصرة في النسيان، وهو باطل؛ لوقوعه في القرآن، قال تعالى: {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ٥٢}[طه]. (من شرح ابن جحاف).
[١] هو استدراك مما في الشرح من قوله: قلنا: لا نسلم فقدانه، فالمخالفة حاصلة فتأمل. (ح عن خط شيخه).