[فصل: في الطرق التي يعرف بها تخصيص العام]
  ومن أمثلة التخصيص بمفهوم الموافقة قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}[الإسراء: ١٢٣]، فإن مفهومه - وهو أن لا يؤذيهما بحبس ولا غيره - مخصص لعموم قوله ÷: «لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم والبيهقي من رواية عمرو بن الشريد عن أبيه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، واللي: المطل، والمراد بحل عرضه: أن يقول غريمه: ظلمني. وبعقوبته: الحبس ونحوه، ولذلك ذهب أصحابنا ونقل عن كثير من الشافعية كالرافعي والبغوي والنووي أن الوالد لا يحبس في دين ولده.
  ومن أمثلة التخصيص بمفهوم المخالفة قوله ÷: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخَبَث» رواه الأربعة، خص بمفهومه قوله ÷: «الماء لا ينجسه شيء» رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري، فإن منطوق الثاني وهو عدم تنجيس الماء قليله وكثيره بشيء من النجاسات خصصه مفهوم الأول بالكثير، وهو القلتان فما فوقهما؛ لدلالة الشرط على أنه إذا لم يبلغ قلتين يحمل الخبث، وهذا مجرد مثال، وإلا فإن حديث القلتين ضعفه أبوداود، مع أنه يحتمل أن يراد إذا بلغهما انتقاصاً ضعف عن احتمال الخبث لا بمعنى دفع الخبث، فيكون التخصيص بالمنطوق لا بالمفهوم.
  والتخصيص بالمفهوم عند من يعتبره حجة هو الصحيح (للجمع) بين الدليلين؛ لأنه(١) دليل شرعي عارض مثله، فلا يعدل إلى اطراح أحدهما مع إمكان العمل بهما ولو كانا مختلفين قوة وضعفاً، كما يخصص الكتاب والمتواتر بخبر الواحد.
(قوله): «فإن مفهومه وهو أن لا يؤذيهما» وعموم هذا المفهوم مخصص بالفتح[١]؛ لجواز حبس الوالد لنفقة ولده، ولجواز حبسه بحق الغير إذا كان الحاكم هو الابن.
(قوله): «بالكثير» متعلق بخصصه، وقوله: «فيكون التخصيص بالمنطوق» أي: يكون تخصيص: «لا ينجسه شيء» بمنطوق: «إذا بلغ الماء قلتين»؛ لأن منطوقه نجاسة الماء إذا بلغ في عدم الكثرة قلتين.
(١) الظاهر والله أعلم أن هذا مناقض لما سبق في الرد على من منع تخصيص الكتاب بالآحاد من أنه لا تعارض لعدم التساوي ويمكن الجواب بأن المراد بالمعارضة فيما سبق المعارضة من كل وجه بحيث يتعذر الجمع بين الدليلين وهنا المعارضة من وجه بحيث يمكن الجمع فلا مناقضة والله أعلم.
[١] ولكن قد سبق للمؤلف أن الحق أن العموم من عوارض الألفاظ، فلا يستقيم هذا عليه. (حبشي ح).