فصل: في تعريف الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما وأحكامهما
  والعمارة تناول رم ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر؛ وذلك لأنه (لا مانع(١) من إرادة الحقيقي والمجازي
(١) أقول: تحصل في هذا المقام أربعة احتمالات: الأول: أن يراد باللفظ الواحد المعنى الحقيقي وحده حقيقة والمعنى المجازي وحده مجازاً، وهذا ممنوع اتفاقاً؛ لأن اللفظ من حيث هو حقيقة لا يحتاج إلى قرينة، ومن حيث هو مجاز يحتاج، وتنافي اللوازم يقتضي تنافي الملزومات.
الثاني: أن يراد باللفظ الواحد مجموع المعنيين من حيث هو مجموع حتى يكون المجموع مناط الحكم، وهذا لا قائل به؛ أما أولاً فلأنه لا مجموع مركب من الاثنين يكون هو المراد؛ إذ لم يتركب لنا من السبع والرجل الشجاع معنى فيقصد باللفظ، وأما ثانياً: فلأنه لا يصح حينئذ إرادة الأفراد، وهو باطل.
الثالث: أن يطلق اللفظ الحقيقي على معنى مجازي لعلاقة، وذلك المجازي كلي وجزئياته المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، إلا أنهما بالنسبة إليه جزئيان حقيقيان، وإنما حقيقية أحدهما ومجازية الآخر بالنسبة إليهما أنفسهما لا بالنسبة إلى ما دخلا تحته. مثاله: استعمال الدابة في كل ما يدب، فذوات الأربع المعنى الحقيقي من جزئياته، وغير ذوات الأربع المعنى المجازي من جزئياته أيضاً، والكل جزئيات حقيقية.
ومثال آخر: لا أضع قدمي في دار فلان إذا استعمل في الدخول مجازاً، فالمعنى الحقيقي وهو دخوله حافياً والمجازي وهو دخوله راكباً جزئيان حقيقيان للدخول، والملحوظ إليه حينئذ أولاً وبالذات المعنى الثالث الشامل للاثنين شمول الكلي لجزئياته، وهذا يقال له: عموم المجاز، ولا خلاف في جوازه.
الرابع: وهو محل الخلاف: أن يراد باللفظ الواحد المعنى الحقيقي وحده والمجازي وحده، لكن استعمال اللفظ بالنسبة إليهما مجاز، كلفظ أسد في السبع والرجل الشجاع، والتجوز من حيث إنه كان اللفظ في الوضع الأول للسبع وحده، وفي الوضع الثاني المجازي ما هو أعم منه، فهو غير ما وضع له، وفي التحقيق المقصود معنى ثالث شامل لهما وهو الشجاع شمول الكل لأجزائه، فهو من باب الكل والجزء، فصارت الأجزاء مناط الحكم، وافترق عن عموم المجاز الذي هو من باب الكلي والجزئي.
هذا، وأنت خبير بأنهم مضطرون إلى هذا الأمر الثالث، وقد جعلوه المراد، ومع إرادته تضمحل إرادة المعنى الحقيقي من حيث هو موضوع اللفظ، ولا يدخله في المراد إلا جزئيته للمعنى الثالث، ويبقى منشأ الفرق للقصد والإرادة دقيق بعيد الغور يتعجب عنده من الوفاق في أحدهما والخلاف في الآخر.
ولو قيل: إن نظر المستعمل في عموم المجاز الأمر الثالث أولاً وبالذات وأنه مناط الحكم والجزئيات تبعاً لدخول الخاص تحت العام، وفي محل النزاع بالعكس، فنظره إلى الأفراد أولاً وبالذات وهي مناط الحكم والأمر الثالث تبعاً بأن يراد من لفظ أسد شجاعة السبع وحدها من حيث هي لازم الموضوع له، وشجاعة الرجل وحدها من حيث المشابهة، فالجزآن السبع والرجل، والنظر إليهما قصداً، والثالث ما اجتمعا فيه، وهي الشجاعة والنظر إليها تبعاً والجزآن مجازان للفظ - لم يبعد ذلك وكان لنظر المستعمل وفرقه بين المقامين وجه وجيه، إلا أنه يبقى على هذا ما تقدم للمصنف في المشترك من امتناع المجازين في اللفظ الواحد وحكاية الاتفاق عليه. والجواب: منع الوفاق، فقد روي الخلاف في الفصول والجمع، ومثلهما في الأسنوي نقلاً عن الغزالي، فلم يخرق هذا الاحتمال إجماعاً، والله أعلم. (من فوائد العلامة أحمد بن عبدالرحمن المجاهد |).