فصل: في حقيقة الحكم وأقسامه وما يتعلق بأقسامه من الأحكام
  وأما الخامس: فالنية إنما تجب فيما وجب بالذات لا بالعرض، وإلا لوجبت نية النية وتسلسل، وهو باطل إجماعاً.
  احتج (الرابع) على وجوب السبب بما وجب به الواجب بقوله: (لوجوده عنده) أي: لوجود الواجب عند وجود سببه، بخلاف غيره من المقدمات(١).
  والجواب: أن هذا صحيح في إيجاب السبب؛ لتوقف الواجب عليه (وليس بكافٍ) في نفي وجوب ما عداه من الشروط؛ لتوقف الواجب عليها أيضاً؛ لاستلزام عدمها عدمه(٢).
  فإن قيل: الحجة في نفي وجوب ما عدا السبب حجة النافي على الإطلاق(٣) فقد عرفت بطلانها. هذا ما حكي من الأقوال في هذه المسألة.
= فمن حرك نفسه في مباح أو غيره أو سكنت نفسه عن الحرام وغيره فلم يخطر بباله الحرام ولا دعته نفسه إليه لم يوجد منه كف، فلا يكون آتياً بالترك الواجب وإن كان غير آثم اكتفاء بالانتفاء الأصلي في حقه. وإن قدرنا حصول ما يتوقف عليه الكف من القصد والإرادة والداعي إلى الحرام فالموصوف بالوجوب هو الكف لا ما يقارنه من فعل المباح؛ لأن اجتماع الكف الواجب وما يعرض من فعل المباح أو غيره اجتماع اتفاقي لا لزومي. هذا، وأما بعض أهل الحواشي فإنه التزم القول بوجوب المباح[١] مع حصول القصد والإرادة والداعي إلى فعل الحرام، وجعله متفقاً عليه، حيث قال: وأما عند توجهنا واشتياقنا إلى الحرام وكنا نجد من أنفسنا أنا نفعل الحرام لو لم نشتغل بضده فلا شك حينئذ أنه يجب علينا فعل المباح أو غيره تحصيلاً لعلة الكف عن الزنا. والجمهور لا ينكرون وجوب المباح مثلاً في هذه الصورة، بل يصرحون بذلك كما تشهد به كتب الفروع، مثلاً: إذا كان شخص مع امرأة جميلة مطلوبة في بيت وكان يجد من نفسه أنه لو لم يشتغل بضد الزنا لصدر منه الزنا فلا شك أن الاشتغال بضد الزنا واجب عليه في تلك الصورة. ثم قال: وأنت تعلم أن ما استدل به الكعبي من أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب إنما هو في هذه الصورة الثانية؛ إذ في الأولى - أعني مع تقدير عدم القصد والإرادة والداعي إلى فعل الحرام - لا يصدق أن فعل المباح مثلاً مما لا يتم الواجب إلا به، فإن أراد هذا فلا خلاف له معهم حقيقة، وإن أراد أن فعل المباح دائماً واجب للكف عن الحرام فالدليل لا يدل عليه فتأمل. انتهى.
(قوله): «وليس بكاف في نفي وجوب ما عداه من الشروط ... إلخ» هذا بناء على استدلال المؤلف، أما إذا استدل على وجوب الأسباب بأن القدرة لا تتعلق بالمسببات لعدم القدرة عليها كما تقدم عن الشريف فالأمر ظاهر.
(قوله): «فإن قيل ... إلخ» هذا الإيراد نشأ عن قوله #: وليس بكاف في نفي وجوب ما عداه، كأنه قيل: لا قدح بعدم كفاية هذا الاستدلال؛ لأن الحجة على نفي ما عداه قائمة، وهي ما عرفت من حجة النافي على الإطلاق، فأجاب بأنك قد عرفت بطلان حجة النافي على الإطلاق فيتم الاعتراض بعدم الكفاية.
(١) كالمشروط مع شرطه، فالسبب أشد تعلقاً، وكأنه أريد بالسبب العلة التامة لا المقتضي في الجملة.
(٢) وقيل: هو مناط الوجوب في السبب ولا دخل فيه لاستلزام تحققه تحقق المسبب.
(٣) وهو القائل بأنه لا يجب تحصيل ما لا يتم الواجب إلا به سواء كان شرطاً أو سبباً، وحجته أن إيجاب الشيء لا يتعداه.
[١] ويخرج عما نحن فيه، إذ هو حينئذ سبب يلزم من وجوده الوجود، لا شرط كما في الصورة الأولى، فتأمل، والله أعلم. (حسن بن يحيى).