توطئة
الكناية
توطئة
  قد تلفظ العرب أحياناً بالكلام، ولا تريد منه معناه الذي يدلّ عليه بطريق الوضع، بل تريد منه ما هو لازم له في الوجود، بحيث إذا تحقق الأول تحقق الثاني.
  وتفسير هذا أنها إذا أرادت أن تصف إنساناً بالجودِ قالت: «هُو كَثِيرُ الرّمادِ» إثباتاً لِلْجود من طريق أكد وأشد، بأمارات تدلّ على صدق دعواها، وهي وصفها له بأن الرماد عنده كثير، ولا يكون الرماد إلا من النار، ولا تكثر النار عادة إلا للطبخ، ولا يطبخ كثيراً عادة إلا لإطعام الناس، ولا يكون ذلك عادة إلا للجود.
  وبذلك تكون قد أقامت البرهان على جوده، فأصبح أمراً لا شك فيه.
  كذلك تقول: «فلانَةٌ نَؤومُ الضحى، تَقْصِدُ أنها مُتْرَفَةٌ مَخْدومةٌ، لَهَا مَنْ يَقومُ بِخِدْمَتها من الخدم والحَشَم، لقضاء لوازمها المنزلية.
  فكل أولئك يقومون بتدبير شؤونها المنزلية، وقضاء حاجها البيتية، فلا تحتاج إلى القيام مبكرة من النوم، فذكرت (نؤوم الضحى) وأرادت ما يستتبعه من الغنى والترف.
  إذاً فالكناية هي لفظ أريد به لازم معناه «لا معناه الأصلي» مع قرينة تجوز إرادة المعنى الأصلي.
  والفرق بين المجاز والكناية أن قرينة المجاز تمنع من إرادة المعنى الأصلي، فلا يسوغ إرادة الأسد الحقيقي في قولك:
  «رأيت أسداً في الميدان يضرب بيديه».
  بخلاف قرينة الكناية، فإنها لا تمنع من إرادة المعنى الحقيقي، فيجوز لك في المثالين السابقين أن تريد أنه كثير الرماد حقيقة، وأنها تنام حقاً إلى وقت الضحى.
  فالكناية أبلغ من المجاز، لأنها أكد في الإثبات، وأقوى في بيان ما يُراد بها، كما رأيت، بخلاف المجاز فهو دعوى مرسلة لا برهان عليها.