تفسير قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير 106}
  دليل آخر، وهو أن تدبير الله تعالى العباد في أفعالهم كتدبيره في أفعاله بهم، والمعلوم أن أفعاله بهم تختلف باختلاف المصلحة، فتارة يفقرهم وتارة يغنيهم، وتارة يمرضهم، وتارة يصحهم، وإذا جاز هذا في فعله تعالى بهم جاز أن تختلف أفعالهم في المصلحة بحسب الأوقات والأماكن والأعيان؛ إذ العقل يجوز ذلك كله، فلا وجه للفصل بينهما. وإذا جاز اختلاف المصالح في الشرائع كما ذكرنا جاز ورود النسخ عليها؛ لأن ورود التعبد واختلافه فرع على ثبوت المصلحة واختلافها؛ ولا يجوز حصول وجه الوجوب أو الحسن ولا يؤثر؛ ألا ترى أنه لا يجوز حصول الفعل الذي فيه دفع ضرر عن النفس ولا يجب، ونحن لا نعني بالنسخ إلا أنه يجوز أن يأمر الله بمثل ما نهى عنه في بعض الأوقات، والعكس؛ وقد ثبت بما مر أنه يجوز أن يصير مثل ما كان نهى عنه مصلحة، وأن يصير مثل ما كان أمر به مفسدة، فجاز ورود الأمر والنهي بحسب ذلك. وأما الدلائل السمعية فكثيرة، منها: الآية الكريمة، فإنها تدل على ثبوت النسخ. واعترض بأنها إنما تدل على أنه لو وقع النسخ لوجب أن يؤتى بما هو خير منه، وليس فيها دلالة على وقوعه؛ وتحقيقه أن (ما) تفيد الشرط والجزاء، فكما أن قولك: من جاءك فأكرمه لا يدل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وجب الإكرام فكذلك الآية، لا تدل إلا على أنه إذا حصل النسخ وجب الإتيان بما هو خير من المنسوخ.
  وأجيب بأن سبب النزول يدل على الوقوع، فإنه روي أن المشركين قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه