حكاية العجوز والفتاة
  بقي عليها أنها لا تعرف الطريق ولا الاتجاه فلا تعرف الشرق من الغرب، ولا الشمال والجنوب، ولكنها عرفت أنها بأعلى صنعاء قريب من قصر غمدان، وفي أثناء ذلك وقد ضايقتها الكلاب، وهي تبكي وتدعو الله تعالى اضطرتها الكلاب إلى دخول باب مفتوح، إنه باب مسجد، يا للأمان، وإذا سراج ضعيف في آخر المدخل على اليمين قصدته وعندها بعض الاطمئنان أنها في صرح مسجد وتبعت النور وإذا هو منزلة صغيرة من منازل المهاجرين لطلب العلم، وإذا أمامها فتى كأنه قطعة من القمر مع السمت الحسن، ولوائح النجابة والصلاح والتقوى ظاهرة على وجهه، وعنده رزمٌ من الكتب عن يمين وشمال وأمام وهو عاكف عليها لا يرفع نظره فقالت السلام عليكم، فرفع رأسه فلما رأى امرأة خجل وانحنى، فقالت: نجني نجاك الله من عذابه، أجاب: بماذا؟ فقالت: أقعد هنا حتى يطلع الفجر ويكثر الذاهبون إلى المساجد ويقل الأذى، تقول هذا وهي تطالع أنفاسها وتبكي. قال: اقعدي ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما شأنك أيتها المرأة؟ قالت: مكروبة وضائعة ولم أعرف جهة بيتنا في هذا الظلام الدامس، ثم قعدت وجمعت عليها ثيابها، ولمح منها ما يضيع العقول من بياض رجليها واليدين والقوام والصوت الذي يقد القلوب، فدخل التفكير في أعماقه وهو على كتبه كلما قرأ من كتاب انتقل إلى غيره وهكذا ... وكانت الفتاة حافية القدمين وربما سارقته النظر وكانت مغرية القوام، وكأن ثيابها تنطق بما ورائها، فثارت الغريزة عند الشاب وتدفقت عيناه بالدموع على الكتاب، وأخذ طرف ثوبه ينشف الدمع عن الكتاب وهي تلاحظه وتراه يرفع يديه إلى السماء قائلاً: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ٨}[آل عمران] وكررها فتخبو تلك الجذوة، ويعود إلى الكتاب