الثالث: الخطب المتعلقة بشهر ربيع الأول
  فقال: كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلاّ عن ذكر، لا يوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أحدٌ من جلسائه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو أقامه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم ينصرف إلاّ بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه قسطه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تُؤبن فيه الحرم ولا تُثنى فلتاته، متعادلين يتفاضلون بالتقوى، متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
  قال: قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟
  فقال: كان رسول لله ÷ دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش ولا غياب ولا مزّاح، يتغافل عمَا يشتهي، فلا يؤيس منه ولا يجيب فيه، قد منع نفسه من ثلاث: من المراء، والإكثار، ومَا لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته.
  لا يتكلم إلاّ فيما رجى ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ من حديثه، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى كان أصحابه يستجلبونهم.
  ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرشدوه إليّ، ولا يقبل الثناء إلاّ من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بنهي أو قيام.
  قال: فسألته كيف كان سكوته؟
  قال: كان رسول الله على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر؛ فأما تقديره: فهي تسوية النظر، والاستماع بين الناس؛ وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى.
  وجُمع له الصبر في الحلم، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه.