روائع الخطب المنبرية للجمع والأعياد والمناسبات الدينية،

إبراهيم الدرسي (معاصر)

الثاني عشر: الخطب المتعلقة بأمراض القلوب

صفحة 94 - الجزء 2

  بِالْعُبُوْدِيَّةِ، {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ٢٢ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ٢٣}⁣[الأنفال].

  وَقَدْ يَقَعُ الْإِعْرَاضُ مِنْ الْعَبْدِ بَعْدَ الْإِيْمَانِ وَالْإِذْعَانِ وَالْعِلْمِ بِالله، وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُوْنُ قُبْحَاً، وَأَعْظَمُ مَا يَكُوْنُ كُفْرَاً؛ إِذْ كَيْفَ يَسْتَبِيْنُ الْحَقُّ لِلْعَبْدِ، وَيَذُوْقُ حَلَاوَةَ الْإِيْمَانِ، ثُمَّ يُفَارِقُهُ إِلَىَ ظُلُمَاتِ الْبَاطِلِ وَالْكُفْرِ وَالْنِّفَاقِ.

  أيها المؤمنون: إن للإعراضاً أنواعاً وأقساماً، تختلف بحسب اختلاف المعرضين:

  فالقسمُ الأولُ: هم الذين جهلوا الحقَّ فأعرضوا عنه، فجهلُهُم بالحق سببُ إعراضهم عنه، قال الله تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ٢٤}⁣[الأنبياء]، ويكونُ هذا بالقلبِ واللسانِ، كالإعراض عَنْ مَعْرِفَةِ الله تَعَالَىْ، وَالْنَّظَرِ فِيْ آَيَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ أَوْ سَمَاعِ آَيَاتِهِ، وهذا حَالُ أكثر الْكُفَّارِ، والبعضُ مِنْهُمْ قد يَعْلَمُ آَيَاتِ الله تَعَالَىْ فَيُعْرِضُ مَعَ عِلْمِهِ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الْجُحُوْدُ الَّذِيْ أخبرَ اللهُ تَعَالَىْ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}⁣[النمل: ١٤].

  والقسم الثاني: الذين عرفوا الحقّ، ثم فارقوه، وهم يدركون أَنَّهُمْ قد خرجوا من الحَقِّ إِلَى البَاطِلِ، وَمن الهُدَى إِلَى الضَّلاَلِ، وَهم يتعللون بأنهم لاَ يَسْتَطِيعُونَ اتِّبَاعَ الحَقِّ، بسبب الخِذْلانِ الَّذِي جعله الله عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى إِعْرَاضِهِمْ، كما قال تعالى {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ٣ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ٤ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ٥}⁣[فصلت].

  والقسم الثالث: الذين عرفوا الحق، لكنَّ قبولهم له وردهم له يكون بحسب المصلحة والهوى، وهذه خصلةٌ من خصال المنافقين، قال الله عن أهلها {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ٤٨ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ٤٩ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٥٠}⁣[النور]، فتراه يُظْهِرُ الْقَبُوْلَ لِدِيْنِ الله تَعَالَىْ وللحقِّ بِلِسَانِهِ لَكِنَّهُ يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ فِيْ تَصَرُّفَاتِهِ وَلَحْنِ قَوْلِهِ، وَهَذَا حَالُ الْمُنَافِقِيْنَ قَدِيْمَاً وَحَدِيْثَاً، وَكُلَّمَا كَثُرَ