الباب الثالث فن الكناية
  اختلافاً شديداً، ففريق يعظمه، ويسلك فنونه في قصائد دعيت بالبديعيات ويؤلف فيه، ويحتفل به غاية الاحتفال وفريق آخر ينظر إليه باشمئزاز، ويصف العصر الذي ساد فيه وشاع بعصر الانحطاط أو الانهيار، حتى لقد قرأت مرة في إحدى الصحف العربية الكبرى، والتي تصدر من بلد خارج العالم العربي لكاتب يتحدث في موضوع أدبي، وحدث أن وقعت عنده سجعة طبيعية بين فقرتين، وإذا الكاتب يستدرك على ذلك بقوله: واستغفر الله على هذه السجعة غير المقصودة وكأنه ارتكب جرماً، أو اقترف ذنباً، أو وقع في خطيئة، فاحتاج إلى استغفار، أو كأنه أعتقد أن أسلوبه أعلى وأكرم وأسمى وأشرف من أن تقع فيه سجعة مقصودة أو غير مقصودة.
  هذان الموقفان المتباينان موقف علماء انداح زمنهم من القرن الخامس الهجري إلى القرن الرابع عشر، وأحبوا البديع وألوانه، ولا سيما الذي حمل صورة مبتكرة، وتم عن رشاقة، ونضح بعذوبة، وتوشح بأسلوب رفيع، فإنه كان يسلب ألبابهم، ويشغف قلوبهم ويملك عقولهم، سواء أجاء بصورة جناس أو سجع أو طباق أو تورية أو غير ذلك، فالفنون البديعية جميعاً على حد سواء طالما كانت ناجحة، وطبيعية وأنيقة، وفيها مسحة من جمال؛ أما إذا شموا منها رائحة التكلف والجهد والعرق فإنهم كانوا يرفضونها، أو لا يعبأون بها، ويتركونها تذوي وتموت ...
  والموقف الثاني هو موقف معظم المؤلفين المعاصرين، فلقد وقفوا من البديع وأهله وعصره وأدبه، شعره ونثره موقفاً متشنجاً، ذلك أنهم رفضوا كلَّ ما جاء به العصران المملوكي والعثماني ومن قبلهما: أواخر العصر العباسي. وكنّا نتمنى أن لو فرقوا بين الفنون البديعية، وبين الشعراء، وبين الإنتاج الأدبي، وبين من نجح ومن أخفق. إذن لكانوا أكثر عدلاً وإنصافاً، واعدل حكما ونقداً.
  الأمر الآخر الذي واجهته في هذا الكتاب هو أنَّ العلماء في مطلع العصر العباسي وقفوا على ألوان محدودة ومتعددة في البديع، لا تكاد تتجاوز أصابع اليدين، ومع مرور الزمن كان العلماء والأدباء يضيفون إليها أنواعا وألوانا جديدة، حتي بلغ صفي الدينّ الحلي ما يزيد على مائة نوع منها، ثم وقف العلماء عند هذه الألوان، لا يزيدون عليها، ولا ينقصون منها، لكنّ الشّعراء والمبدعين لم يتقيَّدا