البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

القسم الأول جماليات في النظم والمعنى

صفحة 14 - الجزء 3

  البرق أضاء ساحات إضم، أم لأنَّ نسمات الحبيب هبت من كاظمة، فسببت له هذا البكاء المُدمى؟ ويلح السائل أكثر، ويزداد إلحاحاً وطلباً لمعرفة سير هذه الدموع الحارقة الكاوية.

  ويستغرب أمر عينيه إذ كلما أمرهما الشاعر بالكف عن البكاء أو النزيف زدادتا إغراقاً بالبكاء محمراً ... وكلما نادى قلبه أن يفيق ويصحو من غشيته ولوعته ازداد خفقاناً واضطراباً وعصياناً ... ويستقر في ذهن السائل أنه ليس بهذه الصفة إلا من ذابوا وجداً وهياماً. وأنَّ الشاعر واحد منهم. ولا أدل على ذلك من هذه المواجع واللواعج وهذه الدموع الحمر، والآهات الحرى، وروائح الحريق تنبعث من كبده وحنايا ضلوعه. إنَّ الحب فضاح لصاحبه. ومن المستحيل أن يكتم محب. ق سر هواه. لأن كل ما فيه من أعضاء يكشف سره، ويفضح أمره. ويكفي المتيم أن تذكر له اسم من يحب، أو بلده، أو جيرانه، أو إشارة منه لترى اصفرار وجهه وارتعاش يديه، واصطكاك ركبتيه، وخفقان قلبه، وسيلان دمع عينيه.

  ويعود السائل إلى الشاعر ليقول له: لم يعد أمامك مجال لنكران، أو فرصة لهروب؛ لقد ذكروا لك البان والعلم فارتجفت، وسالت دموعك. بل إنها حفرت أخاديد على خديك وإنَّها، وايم الله، لتشويك بحرارتها، وتلهب لحم وجهك. يا هذا الرجل! لا تُخف ما فعلت بك الأشواق، واشرح هواك، واعترف أنك مدنف، فالدموع الكاوية وحدها بعض الشواهد والبراهين.

  وهنا ينهار الشاعر أمام تيار الأسئلة، وهي تحمل البراهين الناصعة، والحجج الدامغة، والأدلة المقنعة. بل كان من دمعه، وزفيره، ونحوله، وحريق فؤادة دليل أكبر، وبرهان أعظم. وحينئذ يُصرِّح بما يكويه ويذويه.. فيبدا بكلمة «نعم». وإنَّ هذه الـ «نعم» إيذان بانهيار كل مقاومة أو محاولة للكتمان. ويبدأ بسرد ما يلاقي، وما يدفع إلى البكاء. لقد سرى طيف الحبيب في عينيه فأطار النوم منهما. وجمع عليه اللذة والألم في آن واحد. اللذة في لقاء الحبيب، - ولو عبر طيفه - والألم من فقدانه في عالم الواقع، وعدم قدرته على راحة أو كرى.

  ونريد أن نقول: إنَّ البوصيري في قوله «والحُبُّ يَعْتَرِضُ اللَّذات بالألم» سبق علماء النفس بما يزيد على سبعمائة عام حين قرر هذه الظاهرة النفسية