القسم الأول جماليات في النظم والمعنى
  «اجتماع اللذة والألم» معاً وفي وقت واحد ... ولقد فاضت كتب علم النفس بتقرير هذه الظاهرة، وامتلأت نفوس الذين زعموا أنهم ابتدعوها فخرا وغروراً، ولم يعرفوا أنَّ البوصيري في قصيدته هذه قد قرر هذه الواقعة قبل مئات السنين، لكن علماء المسلمين لم يحاولوا أن يخرجوا بها من عالم القصيدة هذه إلى الفضاء الرحيب في أجواء العالم ليُظهروا إبداعات المسلمين من السلف العظيم في المجال النفسي والتحليل الذاتي.
  ويتابع الشاعر اعترافاته، فيخاطب اللائم أو اللاَّحي أو العدول ويذكر له بأن حبه عذري، والحب العذري طهر كله، ثم يعتذر إليه عن عدم قدرته على الخروج من إسار الحب وقيوده، ويرجوه أن يكف عن السؤال والملام، ويدعو الله لكل عدول أو مشفق عليه ألا يرميه بالهوى، وأن يستره فلا يفضحه، وأن يعافيه فلا يبتليه.
  ويختم الشاعر هذا المطلع الغزلي الرائع بحكمة كادت أن تصبح مثلاً شروداً بين الناس، وهي:
  محضتني النصح، لكن لست أسمعهُ ... إِنَّ المُحِب عن العذال في صمم
  إن هذه المقدمة الغزلية شدَّت كل عشاق الغزل الرفيع، والحب الصادق، والتعبير الرائع، والموسيقى الصادحة، والأسلوب المتقن. حتى لقد غدت على كل شفة ولسان، وصارت مثلاً أعلى يحتذيه كل شاعر تأتي به الأيام ... ولا أدل على ذلك مما سمى به أحمد شوقي قصيدته التي مطلعها «ريم على القاع بين البان والعلم» بـ «نهج البردة».
  أما الأبيات الغزلية فهذه هي:
  أمن تذكر جيران بذي سلم ... مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم؟
  أم هبت الريح من تلقاء كاظمة ... وأومض البرق في الظلماء من إضم؟
  فما لعينيك؟ إن قلت: اكففا، همتا ... وما لقلبك إن قلت استفق يهم؟
  أيحسب الصب أن الحب منكتم ... ما بين منسجم منه ومضطرم
  لولا الهوى لم ترق دمعاً على طلل ... ولا أرقت لذكر البانِ والعلم
  فكيف تنكر حباً بعدما شهدت ... به عليك عدول الدمع والسقم
  وأثبت الوجد خطي عبرة وضنى ... مثل البهار على خديك والعنم