علوم البلاغة بين التطور والتاريخ
  كان الذوق والفن الرفيع والبحث عن روعة التعبير رائدهم، ولم يكن يشغل بالهم تفريعُ البلاغة وتهشيمها وتقعيد القواعد لها، وتقسيمها إلى علوم وجزئيات وفرعيات.
  ودارت الأيام، وخلَفَ علماء البلاغة البلغاء خَلْفٌ أضاعوا الأصالة، ولم يدركوا مكانة الذوق والحسن في البلاغة، وفي تقويم آيات الجمال الأدبي. كان معظم هؤلاء من علماء البلاغة، ولكنهم لم يكونوا بلغاء في أنفسهم، ولم يكونوا متذوّقين، ولا قادرين على إشعارنا بمواطن الجمال إذا هم تذوّقوها، فجردوا من آثار سلفهم ما يتصل بالأحكام والقواعد، ثم صنفوا ذلك مستعينين عليه، كلُّ بحسب ثقافته، بالفلسفة والكلام والمنطق، وفرعوا وقسموا حتى جاءت البلاغة على أيديهم خالية في معظم الأحيان مما كانت به بلاغة؛ جاءت مجردة من أسباب الحياة، جافة لا روح فيها، معقدة لا بيان يوضحها، مقيّدة بالحدود، وإذا هي غادرتها فإلى جدل فلسفي لا أثر للبلاغة الحَيّة فيه.
  كانت البلاغة فناً يُدْرَك بالحس الجمالي، أو كانت جمالاً يُدرك بالذوق، فأصبحت على أيديهم أحكاماً أو معارف صاغوها في حدود وتعريفات.
  كنت تقرأ النص أو تسمعه فتأخذك الروعة ويكتنفك السحر، وقد لا تدري سبباً لإعجابك، ولا تعرف علة لسرورك، حتى يأخذ بيدك ابن الصنعة كالجرجاني والزمخشري فَيَقفُك على موطن الجمال الذي استهواك، ويربط بينه وبين نفسك برباط من ذوقه وفكره فإذا سبب الإعجاب مكشوف لعينيك، واضح أمام ناظريك، فتزداد فوق إعجابك بالجمال إعجاباً بمعرفة سره، ونشوة بإدراك أمره. ثم أصبحت تقرأ النص فلا تشعر أمامه بشيء، ويأتي عالم البلاغة ليقول لك: إن فيه كذا وكذا نوعاً من البديع، فلا يزيد النص جمالاً في عينيك، ولا يغني شعورك بجديد، وإنما هي أسماء تعارفوا