البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

القسم الأول جماليات في النظم والمعنى

صفحة 57 - الجزء 3

  هنانو وفي إخوته الثوار المجاهدين النّار التي سوف تحرق كل معتد أثيم دنس هذا الوطن، واستباح حرماته. وذلك هو ما عناه أبو ريشة «بالنار».

  أرأيت إلى بعض ما حملته عبارة واحدة من معان، وما رسمته من صور، وما أوحت به من ذكريات؟ أو يكفي أن نقول: إن في هذا الشطر طباقاً بين النور والنار ثم نلوي وجوهنا؟ وعلى ذلك نمضي في بقية الأبيات.

  لنأخذ قصيدة أخرى مبللة بالدمع أرسلها ابن زيدون إلى ولادة حبيبته التي تركته يهيم بها، ثم تعلقت بسواه. من أبياتها:

  أضحى الثنائي بديلا من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا

  بِنتُم، وبنا، فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم، ولا جفت مآقينا

  نكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

  حالت الفقدِكُم أيامنا فغدت ... سودا، وكانت بكم بيضا ليالينا

  من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم ... حزنا على الدهر، لا يبلى، ويبلينا

  أنَّ الزمان الذي ما زال يُضحكنا ... أنسا بقربهم، قد عاد يبك

  غيظ العدى من تساقينا الهوى فدعوا ... بأن تغص، فقال الدهر أمينا

  في الأبيات عدد كبير من ألفاظ الطباق ومن عبارات المقابلة. ويخيل إلينا أن جمال القصيدة جاء من عوامل كثيرة، من جملتها هذه المقابلات والمتضادات. بين التنائي والتداني، وبين اللقاء والجفاء. وبين الأسى والتأسي. وبين سواد الأيام وبياض الليالي. ويبلينا وبين لا يبلى و بين يضحكنا ويبكينا.

  هذه المقابلات لم تكن زينة بديعية، حسنت المعاني. وإنما هي جزء أصيل من تفكير الشاعر وتعبيره. ولولاها ما كان بالقادر على البوح بما يحرقه أو يكويه. كيف يتحدث عن البعاد إن لم يكن يعرف معنى القرب واللقاء؟ وكيف يعبر عن حرقة الدمع إن لم يكن يعرف روعة اللقاء وفرحته وبرده وسلامه؟ وكيف يصف أيامه الحالية وقد تجللت سواداً إن لم يقارنها بلياليه الخوالي، وقد كانت تشرق أنواراً؟