القسم الأول جماليات في النظم والمعنى
  أليست هذه المقابلات أساساً من أسس تعبير بني الإنسان في سرائهم أو ضرَّائهم؟
  وهذه بعض أبيات من قصيدة للمتنبي، كانت أول ما أنشد كافوراً الإخشيدي، وقد أفعمها بالمقابلات فكانت أروع ما يكون عليه الفن الرفيع.
  كفى بك داء ان ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا ان يكن امانيا
  تمنيتها، لما تمنيت أن ترى ... صديقاً فأعيا، أو عدوا مداجيا
  إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة ... فلا تَسْتَعِدن الحسام اليمانيا
  ولا تستطيلن الرَّماح لغارة ... ولا تستجيدن العتاق المذاكيا
  فما ينفع الأسد الحياء من الطوى ... ولا تتقى حتى تكون ضواريا
  حبيتك قلبي قبل حبك من نأى ... وقد كان غداراً فكن أنت وافيا
  وأعلم أن البين يشكيك بعده ... فلست فؤادي إن رايتك شاكيا
  أقل اشتياقاً أيُّها القلب ربما ... رايتك تصفى الود من ليس صافيا
  إن الأبيات جميلة، بل هي رائعة. وروعتها جاءت من مصادر شتى، من جملتها قدرة الشاعر على حسن المقابلة بين المتضادات. ما أروع الصورة التي صورت المنايا، وهي الكريهة إلى كل مخلوق، بصورة الأماني التي يحلم بها الإنسان ويتمناها! وما كانت لتصبح كذلك لولا أن اختلطت عليه الأمور، وادلهمت الأيام، فما عاد يُفرّق بين صديقه وعدوه. فراح يخبط في الحياة خبط عشواء، لا يميز بين خير وشر، أو نفع وضر، ولا بين أبيض وأسود.
  ثم ما أروع خطابه وعتابه لقلبه وحديثه معه. واستذكاره لأيامه الخوالي في ظلال سيف الدولة وربوعه. ثم بكاءه على وفاء سفحه على تلك الصداقة، وأرخصه بين يدي من ظنه وفياً مثله، لكنه تكشف عن غدر وخيانة ونكران لكل ساعة ود وصفاء! أيها القلب سوف أبرأ منك لو شكوت البعد. وأنا أعرف أنك تتمزق قبل أن تمتد إليك يدي، أو تحرقك دمعتي. وأعلم أنَّ البين يُشكيك بعده، فلست فؤادي، إن رأيتك شاكياً.
  إنه الصوت والصدى والفعل وردة الفعل. والفكرة وطباقها. بل