البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

القسم الأول جماليات في النظم والمعنى

صفحة 61 - الجزء 3

  لنقرأ آية أخرى في ظل هذا التفسير. قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٢٦ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ٢٧}⁣[آل عمران].

  ظاهر الآية مفعم بالطباق بين الأفعال من مثل (تؤتي وتنزع، وتعز وتذل)، وطباق بين الأسماء من مثل «الليل والنهار والحي والميت». وتلك هي محسنات معنوية تزيد الكلام حسناً وجمالاً

  أما واقع الآية فهو أكبر من ذلك وأعم. إنها نداء خاشع. في تركيبه اللفظي إيقاع الدعاء، وفي ظلاله المعنوية روح الابتهال، وفي التفاتاته إلى كتاب الكون المفتوح استجاشة للمشاعر في رفق وإيناس، وفي جمعه بين تدبير الله وتصريفه لأمور الناس ولأمور الكون إشارة إلى الحقيقة الكبيرة: حقيقة الألوهية الواحدة، القوَّامة على الكون والناس، وحقيقة أن شأن الإنسان ليس إلا طرفاً من شأن الكون الكبير الذي يُصرفه الله، وأن الدينونة الله وحده هي شأن الكون كله كما هي شأن الناس، وأن الانحراف عن هذه القاعدة شذوذ وسفه وانحراف.

  {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ}⁣[آل عمران: ٢٦]. إنَّها الحقيقة الناشئة من حقيقة الألوهية الواحدة. إله واحد، فهو المالك الواحد هو مالك الملك بلا شريك. ثم هو من جانب يملك من يشاء ما يشاء من ملكه. كذلك هو يعز من يشاء، ويذل من يشاء، بلا معقب على حكمه، وبلا مجير عليه، وبلا راد لقضائه، فهو صاحب الأمر كله بما أنه - سبحانه - هو الله. وما يجوز أن يتولى هذا الاختصاص أحد من دون الله.

  وفي قيام الله هذا الخير كل الخير، فهو يتولاه - سبحانه - بالقسط والعدل. يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل، فهو الخير الحقيقي في جميع الحالات، وهي المشيئة المطلقة على تحقيق