البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

مراعاة النظير

صفحة 77 - الجزء 3

  صفة متلائمة وموصوفها، ولا مضافاً منسجماً مع المضاف إليه، ولا مبتدأ متطابقاً وخبره، ولا فاعلاً متفقاً ومفعوله. وإنما هي الفوضى والاستهتار بقوانين اللغة، وأصول استخدام المفردات وبناء التراكيب في حقيقتها ومجازها.

  ***

  لنعُد إلى عالم الجمال والعطر والأناقة وروعة التعبير ومراعاة النظير.

  ولنقرأ قصيدة البحتري الذي راح يعاتب حبيبه الهاجر. ولسوف نشم العطر في الأسلوب، بل سوف نجد الأبيات رغم تجاوزها الألف من السنين في العمر ما تزال ندَّية طرية فياضة بماء الشباب.

  قال البحتري⁣(⁣١):

  أيها العاتب الذي ليس يرضى ... نم هنيئا، فلست اطعم غمضا

  إن لي من هواك وجداً قد استهـ ... لك نومي، ومضجعا قد أقضا

  فجفوني في عبرة ليس ترقا ... وفؤادي في لوعة ما تقضى

  يا قليل الإنصاف كم أقتضي عنـ ... ـدك وعدا إنجازه ليس يقضى

  أحيني بالوصال إن كان جودا ... وأثبني بالحب إن كان قرضا

  ألا ترى معي أنَّ القصيدة تفيض رقة وعذوبة، وأنَّ ألفاظها متوافقة، ومعانيها مترابطة، وكأنَّ هذا البناء قد أحكم فلا يأتيه خلل، أو يتسرب إليه فساد، رغم مرور مئات السنين؟

  وإذا كنت تقول إن معظم شعر الحبّ الصادق يمتلئ بمثل هذه الإشراقات، وتميل النفوس إليه لأنَّه جزء من عمارة الكون، وهذه الأبيات قد أخذت من ذلك قسطاً كبيراً. إذا قلت هذا فخذ الآن قصيدة ثانية، يتحدَّث فيها صاحبها عن الموت، وهو شيء بغيض إلى معظم الناس رغم معرفتهم أنه أمر لا بدَّ منه. ولسوف تجد العظمة والنشوة واللذة التي وجدتها في قصيدة الغزل، لأن الشاعر لاءم بين ما يجب أن يتلاءم وينسجم إنها لمالك بن الريب، وكان قد خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان مجاهداً في أقصى


(١) ديوانه ٦٨/ ٢.