البلاغة العربية في ثوبها الجديد،

بكري شيخ أمين (المتوفى: 1440 هـ)

القسم الثاني جماليات في الشكل والأسلوب

صفحة 125 - الجزء 3

  مستكرهاً. ولو كان كذلك لما فاض به كثير من السور القرآنية والأدعية النبوية. والخطب الراشدية وأقوال الأدباء والصالحين من الناس.

  وكأنَّ الاعتراض الذي لمحناه في حديث رسول الله حين قال لذاك الشجاعة (أسجع كسجع الجاهلية؟) ينطوي على رغبته باستنكار أساليب الكهنة والسحرة المضللين، فقد كانوا يتخذون هذا الأسلوب - وحده - ليُضلوا الناس، ويطمسوا على عيونهم وقلوبهم، ويحرفوهم عن سواء السبيل، ويوحوا إليهم أنهم يعلمون الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله وحده، فلقد روي على لسان سطيح - وهو أحد كهنتهم - قوله (أقسم بما بين الحَرَّتَين من حنش، لتهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش ...). ولقد كذب سطيح في قسمه السخيف، وكذب فيما أقسم عليه فلم تملك الحبش أرض العرب، ولم ينزلوا ما بين أبين إلى جرش - رغم سجعه

  كذلك كذب الكاهن الآخر المسمى «شيق» حين أقسم كاذباً فقال:

  (أقسم بما بين الحَرَّتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران).

  لقد ادعى شيق علم الغيب، كما ادعاه سطيح، ولقد كذب شيق وكذب سطيح، فلم يملك الحبش؛ ولا السودان أرض العرب، ولا غلبوا على أحد.

  إن رسول الله حارب كل معتقدات الجاهلية، ووقف في وجه كهنتها وأساطيرها وخرافاتها وأساليبها.

  ولئن كان سطيح وشيق وسجاح ومسيلمة وسواهم يكذبون على الناس ويصوغون أكاذيبهم بلون معين من الصياغة المسجعة ... إنه # حارب الأكاذيب والأسلوب الخاص الذي صيغت به.

  ويخيل إلينا أن العلماء رأوا أن الرسول الكريم لم يحارب السجع لأنه سجع فحسب، أو لأنه لون من ألوان الصياغة والحلية، بل حارب المضمون الفكري الذي كان السجع رداءه ومظهره.