[أقوال ابن المقفع والرد عليها]
  فيه ما ذكر الله فيه من السكون بأوجد معارف ما يُعرف من كل كون؟ والسكون راحة، والراحة فسحة، والفسحة خير كثير، فالظلمة الآن عندهم خير، يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ٦٧}[يونس]، وقال الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ٧٢}[القصص].
  وهل ينكر أن نور الشمس - يدرك ذلك منها بالحس - معشاة لبعض العيون، ومضار في كثير من الفنون، وهو أفضل النور عندهم فضلاً، وأكثره في النور محصلاً، أو ليس قليل النهار مقصراً في النور عن كثيره، والتقصير شر، فالشر في بعض النهار بتقصيره، فأي محال أوضح أو مقالِ إحالة أقبح من هذا مقالاً، ومن محاله محالاً؟ ليس بالأمر من خفاء، ولا على عورة أهله من غطاء، إلا أن عجمة القلوب وما فيها من عَمَهِ الذنوب تجول بأهلها كل مجال، وتهلك بمجالها ضعفة الرجال.
  ومما قال من هماهم صدره(١) وزمازم هتره: إن الشيطان - زعم - قد بنى على كل صنف من أهل الأديان حائطاً حصيناً وسوراً شديداً حصرهم - زعم - فيه، ووكل بهم شيطاناً من شياطينه وجعله عليه، فإن كان الوكيل حفظ السور فهذه أمانة، وإن لم يحفظه وكانت منه لموكله فيه خيانة كان السور كما لم يكن، ولم يبق فيه أحد ممن سجن.
  فاعجبوا أيها السامعون لما تسمعون من متناقض هذا القول، الذي لا يقول مثله إلا كل منقوص مرذول، فافهموا ما به وصف شيطانه، وكيف شدد أركانه؛ إذ جعل له أسواراً وحصوناً، وجعل نوره عنده مسجوناً، وذو السجن والحصون محتال، والحيلة فلا يعرفها عنده الجهال؛ لأن المعرفة عنده خيرٌ سارٌ،
(١) هماهم النفوس: أفكارها وما تهم به عند الريبة في الأمر. والزمازم: جمع زمزمة، وهي الكلام الذي لا يفهم. والهِتر بالكسر: السقط من الكلام.