تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

الباب الرابع في وصاياه # وذكر مقتله وقبره

صفحة 148 - الجزء 1

  عَمَّا رَغَّبْتُ عَنْهَا فَأَنْتَ أَهْلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ نَصِيحَتِي فَاعْلَمْ عِلْمًا يَقِينًا أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَإِنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَاخْفِضْ - يَا بُنَيَّ - فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَرُبَّ طَلَبٍ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ.

  وَانْظُرْ إِلَى إِخْوَانِكَ الَّذِينَ كَانُوا لَكَ فِي الدُّنْيَا مُوَانِسِينَ، وَمَعَكَ للهِ ذَاكِرِينَ مُتَكَاثِفِينَ، قَدْ خَلَوْا عَنِ الدُّورِ، وَأَقَامُوا فِي الْقُبُورِ إِلَى يَوْمِ النُّشُورِ، وَكَأَنْ قَدْ سَلَكْتَ مَسْلَكَهُمْ وَوَرَدْتَ مَنْهَلَهُمْ، وَفَارَقْتَ الْأَحِبَّةَ، وَنَزَلْتَ دَارَ الْغُرْبَةِ وَمَحَلَّ الْوَحْشَةِ، وَجَاوَرْتَ جِيرَانًا افْتَرَقُوا بِالتَّجَاوُرِ، وَاشْتَغَلُوا عَنِ التَّزَاوُرِ، فَاعْمَلْ لِذَلِكَ الْمَصْرَعِ، وَهَوْلِ الْمُطَّلَعِ، فَيُوشِكُ أَنْ تُفَارِقَ الدُّنْيَا، وَتَنْزِلَ بِكَ الْعُظْمَى، وَتَصِيرَ الْقُبُورُ لَكَ مَثْوَى، وَاعْمَلْ لِيَوْمٍ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَيَجِيءُ فِيهِ بِصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، حَوْلَ الْعَرْشِ يُجْمَعُونَ عَلَى إِنْجَازِ مَوْعِدِ الْآخِرَةِ، وَزَوَالِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ، وَتَبَدُّلِ الْآمَالِ، مِنْ عَدْلِ الْقَضَاءِ، وَفَصْلِ الْجَزَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ.

  فَكَمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ عَيْنٍ بَاكِيَةٍ، وَعَوْرَةٍ بَادِيَةٍ، تُجَرُّ إِلَى الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَتُسْقَى مَاءَ الْحَمِيمِ، فِي مَسَاكِنِ الْجَحِيمِ، إِنْ صَرَخَ لَمْ يُرْحَمْ، وَإِنْ صَبَرَ لَمْ يُؤْجَرْ، فَاعْمَلْ لِتِلْكَ الْأَخْطَارِ، تَتَخَلَّصْ مِنَ النَّارِ، وَتَكُنْ مَعَ الصَّالِحِينَ الْأَبْرَارِ.

  يَا بُنَيَّ؛ كُنْ فِي الرَّخَاءِ شَكُورًا، وَعِنْدَ الْبَلَاءِ صَبُورًا، وَلِرَبِّكَ ذَكُورًا، وَلْيَكُنْ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَعْمُورًا.

  يَا بُنَيَّ؛ لَنْ تَزَالَ بِخَيْرٍ مَا حَمِدْتَ رَبَّكَ، وَعَرَفْتَ مَوْعِظَتَهُ لَكَ، فَإِنَّ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ رَقِيقَةٌ، وَأَعْمَالَهُمْ وَثِيقَةٌ، وَنِيَّاتِهِمْ صِدْقٌ وَحَقِيقَةٌ، فَالْزَمْ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِهِمْ وَجَمِيلَ أَفْعَالِهِمْ، لَعَلَّكَ تُحَاسَبُ حِسَابَهُمْ، وَتُثَابُ ثَوَابَهُمْ.

  يَا بُنَيَّ؛ أَزَحْتُ عَنْكَ الْعِلَّةَ، وَأَلْزَمْتُكَ الْحُجَّةَ، وَكَشَفْتُ عَنْكَ الشُّبْهَةَ، وَظَهَرَتْ لَكَ الْآثَارُ، وَوَضَحَتْ لَكَ الْبَيِّنَاتُ، وَمَا أَنْتَ مُخَلَّدٌ فِي الدُّنْيَا، فَعَيْشُهَا غُرُورٌ، وَمَا يَتِمُّ فِيهِ لِذِي لُبٍّ سُرُورٌ، يُوشِكُ مَا تَرَى أَنْ يَنْقَضِيَ وَتَمُرَّ أَيَّامُهُ، وَيَبْقَى وِزْرُهُ وَآثَامُهُ.

  إِنَّ الدَّارَ الَّتِي أَصْبَحْنَا فِيهَا بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ، وَبِالْفَنَاءِ مَوْصُوفَةٌ، كُلُّ مَا تَرَى فِيهَا