تيسير المطالب في أمالي الإمام أبي طالب،

يحيى بن الحسين الهاروني (الإمام أبو طالب) (المتوفى: 424 هـ)

الباب الرابع عشر في الخطب والمواعظ وما يتصل بذلك

صفحة 290 - الجزء 1

  أَلَسْتُمْ تَرَوْنَ وَتَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ فِي مَنَازِلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانُوا أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَارًا، وَأَشْهَرَ مِنْكُمْ آثَارًا، وَأَكْثَرَ مِنْكُمْ جُنُودًا، وَأَشَّدَّ مِنْكُمْ عَمُودًا، تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ، وَنَزَلُوا بِهَا أَيَّ نُزُولٍ، وَآثَرُوهَا أَيَّ إِيثَارٍ، فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَمَحَتْ لَهُمْ؟! بَلْ أَهْلَكَتْهُمْ بِالْخُطُوبِ، وَدَهَمَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ، وَهَلْ صَحِبَتْهُمْ إِلَّا بِالتَّعَسُّفِ، وَهَلْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّارُ.

  أَفَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَوْ فِيهَا تَرْغَبُونَ؟! وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: {مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ ١٥ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٦}⁣[هود] بِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَا يُنَهْنِهُهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ، اعْلَمُوا - وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ لَا بُدَّ تَارِكُوهَا - أَنَّهَا كَمَا قَالَ ø: {لَعِبٞ وَلَهۡوٞ} {ٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا ٱلۡحَيَوٰةُ ٱلدُّنۡيَا لَعِبٞ وَلَهۡوٞ وَزِينَةٞ وَتَفَاخُرُۢ بَيۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرٞ فِي ٱلۡأَمۡوَٰلِ وَٱلۡأَوۡلَٰدِۖ كَمَثَلِ غَيۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرّٗا ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰمٗاۖ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٞ شَدِيدٞ}⁣[الحديد: ٢٠].

  فَاعْتَبِرُوا بِمَنْ قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، صَارُوا فِي التُّرَابِ رَمِيمًا، لَا يُرْجَى نَفْعُهُمْ، وَلَا يُخْشَى ضُرُّهُمْ، وَهُمْ كَمَنْ لَمْ يَكُنْ، وَكَمَا قَالَ اللهُ ø: {فَتِلۡكَ مَسَٰكِنُهُمۡ لَمۡ تُسۡكَن مِّنۢ بَعۡدِهِمۡ إِلَّا قَلِيلٗاۖ}⁣[القصص: ٥٨] اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْنًا، وَبِالْأُنْسِ غُرْبَةً، وَبِالْأَهْلِ وَحْدَةً، غَيْرَ أَنْ قَدْ ضَعَنُوا بِأَعْمَالِهِمْ إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، أَوِ الشِّقْوَةِ اللَّازِمَةِ، فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمْرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً، أَوْ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى شِقْوَةٍ.

  جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ، وَلَا تُعْظِمُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ اللهِ غَايَةٌ، وَلَا تَحُلُّ بِهِ شِقْوَةٌ، فَإِنَّهُ لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

  صَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ بَيْتِهِ الْمُطَهَّرِينَ، وَعَلَى أَنْبِيَائِهِ أَجْمَعِينَ وَعَلَى آلِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ