الكاشف الأمين عن جواهر العقد الثمين،

محمد بن يحيى مداعس (المتوفى: 1351 هـ)

فصل: [معاني بعض الآيات المتشابهة]

صفحة 229 - الجزء 1

  وَلمَاَّ كان مَسَاقُ هذه الآية كما ذُكر يستلزم سؤالاً وهو أن يقول قائل: ولِمَ مكن الله سبحانه إبليس من ذلك الإلقاء في حال أمنية النبي، والأمنية هي الكلام المبلَّغ من النبي إلى الملأ في المحافل والمجامع كالخطبة ونحوها مما يقال على جهة التبليْغ والوعظ برفع الصوت، فيحضر إبليس اللعين - نعوذ بالله منه - فيتكلم بصوت يشبه صوت ذلك النبي مما يناقض كلامه ويدعو إلى خلافه، {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} بأن يوحي إلى الرسول أو يُسمِعَ الرسول ذلك {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} بأن يبين على لِسْن⁣(⁣١) ذلك الرسول أن ذلك المناقض هو من إلقاء ذلك الشيطان العدو المبين، فكان هذا محل سؤال واستشكال لأن يقول قائل: ولِمَ مَكَّن اللهُ إبليس من الحضور والكلام المشابه في صوته وهيئته لكلام النبي، وما الحكمة؟

  فَأجاب ø عن هذا السؤال المقدر بقوله تعالى: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ٥٣ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٤}⁣[الحج]، ونحو ذلك كقصة العجل ونهر طالوت، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَليَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}⁣[العنكبوت ٣]. والفتنة مأخوذة من قولهم: فَتَنْت الذهب، إذا ألقيتَه في النار ليتبين رداءته من جودته. وهذا وجه حسن لا شك فيه.

  الوجه الثالث: ما أشار إليه الشيخ العلامة الشهيد مفحم الخصم المناوي محمد بن صالح السماوي ¦ في جوابه على أهل مكة، وهو أنه لَمَّا كان أُسُّ الشريعة بعد التوحيد أن يأتمر الكل بأمر الله وأن ينتهوا بنهيه وَجَبَ في الحكمة الإلهية أن يُوصَفَ لهم الواجِبُ تعالى بما يوجب ذلك⁣(⁣٢)، فَوصِفَ لهم بأنه الملك


(١) اللِّسْنُ بالكسر: الكلام واللغة، واللسان. (قاموس).

(٢) أي: الائتمار والامتثال.