إبطال شبهة المجبرة:
  قلوبهم أو لا يخلقها، وعلى كلا التقديرين - وهو خلق الاستدلال أو عدمه - فالاشتغال والاهتمام به مما لا يصح؛ لأنه إن خلق في الإنسان أغناه ذلك عن الاشتغال وإتعاب البال، وإن لم يخلق، فالاشتغال وإتعاب البال عبث لا حاجة له بحال، وهذا كما أنه يبطل على أهل الجبر استدلالهم عليه، ويقضي بقبح النظر منهم فيما يتوصل به إليه - فهو مع القول بالجبر يتعداه إلى النظر في إثبات الصانع تعالى ومعرفته حق معرفته من أنه قادر عالم حي دائم واحد لا شريك له ولا نظير، بل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير؛ فيلزم أن لا يصح النظر في إثبات الصانع تعالى وسائر ما ذكرنا مما يجب لله تعالى، وأنه لا يحسن ذلك، بل يلزم قبحه؛ للزوم العبث حسبما ذكر، فيكون الكفار المعرضون عن التفكر في ملكوت السماوات والأرض الموصل إلى معرفة الله تعالى أحسن حالاً من الذين تفكروا ونظروا حتى عرفوا الله وآمنوا به؛ لأن أولئك تركوا ما لا يعنيهم، وأراحوا نفوسهم(١) عن تطلّب ما لا يمكنهم تحصيله، واجتبوا العبث المستقبح عقلاً، وهؤلاء تعرضوا لما لا يعنيهم، وأتعبوا نفوسهم فيما لا يجديهم وإن حصل فليس من فعلهم ولا سعيهم، وارتكبوا العبث المستقبح، فقد رأيت أيها الطالب الرشاد أن الجبر إنما هو مفتاح الإلحاد والتعطيل، وأنه لا يستقيم معه تحرير أي دليل على شيء من العلم كثير ولا قليل.
  وبعد، فإنَّ من قواعد الجبر التي قررها مشائخه المبطلون، وأسسها لهم المشركون الأولون - أنَّ الله تعالى يريد كل واقع من كفر أو إيمان، أو طاعة أو عصيان، أو علم أو جهل، أو صدق أو كذب، وحينئذ فلا ثمرة في الاشتغال لتحصيل العلوم، والدندنة حول إثبات الحي القيوم، فسواء مشى الإنسان في ذلك أو قعد، وسيّان تفكر أو تمرد، ولا فرق بين النقيضين أَلحَدَ أو وحَّدَ، ولا
(١) أنفسهم. نخ.