[فصل:] في الكلام في القضاء والقدر وغيرهما من المتشابه
  وأرحم الراحمين، وذلك أنهم يدينون ويعتقدون أن ما من كذب أو ظلم أو جور أو فسق أو كفور أو طغيان أو فجور يصدر من جهة العبد إلا والله فاعله ومريده ومقدره عليه، ومع ذلك فالله يعذبه عليه ويذمه ويلعنه، فأي مذهبٍ أشنع من هذا المذهب؟ وأين يبقى معه للعدل والحكمة والرحمة مطلب؟
  وأيضاً فإن مذهبهم يؤدي إلى الأياس من روح الله، وإلى القنوط من رحمته وإساءة الظن به تعالى؛ لأن عندهم أن الله هو الذي أغوى الخلق وصدهم عن الدين الذي شرعه لهم، وأن له أن يعاقب بغير ذنب، وأن يدخل الفراعنة الجنة، والأنبياء والمؤمنين النار؛ لأنه غير منهي ولا يقبح منه قبيح.
  وأيضاً فإن مذهبهم يؤدي إلى ترك الطاعات والتكاسل عنها، والإغراء بالمعاصي والتثبيط عن التوبة والمسارعة إليها؛ لأن عندهم أن الله هو الفاعل لذلك، ولا أثر للعبد في ذلك كله، فلا يلزمه مبادرة إلى طاعة ولا محاذرة عن معصية، بل سبيله في ذلك أن يقول: إن قد سبق في علم الله أني سأفعل الطاعة، فهي ستحصل فِيَّ لا محالة، وإن قد سبق أني سأفعل المعصية فهي ستحصل فِيَّ لا محالة، فلا يهتم بعد ذلك على فعل طاعة ولا على تجنب معصية، وكذلك يقول: إن كنت من أهل النار فلا تنفعني الطاعة، وإن كنت من أهل الجنة فلا تضرني المعصية، كما حكي أن مجبراً احتُضِر للوفاة وعليه دين، فقال لأولاده: امسكوا عليكم أموالكم ولا تقضوا من ديوني شيئاً، فقد علمت أني من إحدى القبضتين، فإن أكن في القبضة التي إلى الجنة فلا يضرني المطل، وإن أكن في القبضة التي إلى النار لم ينفعني قضاء الدين.
  فانظر إلى هذا المخذول كيف استحوذ عليه الشيطان حتى سوَّل له أن الثواب والعقاب لم يكونا متفرعين على موجبهما من الأسباب، وأن من موجب دخول الجنة الإيصاء بالدين وقضاءه، ومن موجب دخول النار ترك الوصية به وعدم قضائه، بل جعل دخول الجنة والنار على سبيل المجازفة والمعازفة بأن يدخل الله