وجه وجوب التكليف الشرعي:
  الرسل بالشرائع ليتميز بها الشاكر الطائع من الكافر المخالع، واختلفت وجوه المصالح فيها باختلاف الأحوال والأوقات والأمكنة والأشخاص؛ ومن ثمَّ جاز النسخ فيها دون ما عداها، ولم يجعل للعقول مجالاً في إدراك ما يجب وما يندب وما يحرم وما يكره وما يباح منها على التعيين إلا على ألسنة الرسل À؛ لئلا يبطل الغرض المقصود بإرسالهم ويُستغْنى عنهم؛ فيؤدي إلى سقوط مرتبتهم، وتتطرق الأهواء والأغراض الذاتية إلى تغييرها وتبديلها، وذلك في الشرعيات المحضة الخالصة كالعبادات الواجبات والمندوبات، وكالمحرمات والمكروهات الشرعية. وقلنا: «المحضة». احترازاً من المشوبة المركبة من العقلي والشرعي، كالمعاملات التي يؤول العمل فيها بخلاف(١) الحكم الثابت لها إلى(٢) الإضرار بالعالم أو بعضه، وتلتحق بالعقليات، كنقص الميزان والبخس والزنا ونحو ذلك مما يدرك العقل قبح ذلك بالتأمل، وورد الشرع بتحريمه وإيجاب ضده، فإن هذه لا تسقط مرتبة الرسل À إذا عرفها الناس بعقولهم، واستغنوا في معرفتها عن تبليغهم الرسل إياها، ولا تتطرق إليها الأهواء والأغراض إلا لمن تجاسر وعاند قضية العقل، وجهل الوعيد فيها من جهة النقل؛ فعلم بهذا حسن التكليف الشرعي ووجوبه.
  ولما كان الله تعالى غنياً عن عبادة العابدين وشكر الشاكرين وذكر الذاكرين، وكان من حكمته ورحمته بخلقه وجوب التناصف فيما بينهم وعدم رضاه بالكفر لهم - وجب أن يقرن التكليف بالثواب والعقاب؛ ليكونا داعيين وذائدين إلى فعل ما كلفوا فعله، وعن فعل ما كلفوا تركه من عقلي أو شرعي أو مركب، وكان الثواب والعقاب بالغين مبلغاً لا مجال للعقل بكميته؛ لئلا تستخف العقول الضعيفة المقرونة بالأهواء السخيفة.
(١) متعلق بالعمل. هامش (أ).
(٢) متعلق بيؤول. هامش (أ).