[فصل:] في البلاء والآلام وما يتصل بذلك
  وبعد، فلم يعط الله تعالى أحداً شيئاً من حرام؛ لأن جميع الذوات والمعاني التي خلقها ورزقها العباد من الأثمار والأنهار وجميع المآكل والمشارب، ومن الأسماع والأبصار والأفئدة، وجميع المعاني المنعم بها على الخلق - لا يتأتى وصفها بالتحريم والتحليل؛ نظراً إلى كونه تعالى الموجد والمعطي لها، وإنما يتأتى ذلك نظراً إلى إعطاء المكلفين إياها سائر الخلق باعتبار ما حظره الشارع وأباحه لهم، وإذا كان كذلك فلم يدخل الحرام في العطاء المنسوب إلى الله تعالى، فلم يشمله الحد، بل أخرجه كما ترى، وهذا واضح لا غبار عليه.
  قالوا: الإعطاء الذي يفعله الخلق من بعضهم إلى بعض يشمل الحرام والحلال، والمعطي الفاعل لذلك هو الله تعالى؛ لأنه لا فعل للعبد.
  قلنا: بناءً على الجبر وقد مر إبطاله.
  قالوا: لو لم يكن الحرام رزقاً لكان الظالم الذي لا يأكل إلا من المظالم لم يجعل الله له رزقاً، ولكان المظلوم الذي غصبت عليه تلك المظالم لم يأكل رزقه، فما ذاك إلا أنه رزق لمن أكله دون من لم يأكله، وإن كان غير مملوك وحلال للأول، ومملوكاً حلالاً للثاني، فلا تلازم.
  قلنا: أما لزوم لم يجعل الله رزقاً للظالم فلا يسلم؛ لأنه من جملة الخلق الذين خلق الأثمار ونحوها والقوى ونحوها لهم، ولكن جعل لتناول الأعيان المرزوق لها وجوهاً تقتضي التحليل ووجوهاً تقتضي التحريم، فأمره وأباح له التناول من هذه، كالاحتطاب من المباح، وكالميراث، وما اكتسب من تجارة أو حراثة أو هبة أو صدقة أو نحو ذلك، ونهاه وحظر عليه هذه، كالغصب والربا ونحو ذلك، فما أمره به وأباحه له فهو ما رزقه، وما نهاه عنه وحظره عليه فهو ما لم يرزقه، ولو ترك الظالم أكل المظالم وعمد إلى الاكتساب الحلال من الاحتطاب أو التجارة أو النجارة ونحو ذلك لتناول رزقه الذي كتبه الله تعالى له، وهذا لا شك فيه،