[فضل الإنفاق وقبح البخل]
  واعلم يقيناً أنك لا تظفر بذلك من نفسك حتى تقهرها وتمنعها من الرغبة، والحرص، والكبر، والرياء، والحسد، والرئاسة، والبخل، وطول الأمل، والتقلب في طلب الشهوات، والمحبة للدنيا، والتصنع للناس، وحب المحمدة، والغش، والخيانة، وخوف الفقر، والسعي للطلب مما في أيدي المخلوقين، ونسيان الموت والغفلة عنه، والشح، والسفالة، والسفاهة.
  فإذا نصرت على ذلك، ونقيت القلب عن آفات ما ذكرت لك، شكر الله تعالى سعيك على ذلك، غير أن النفس لا تصلح حتى تكدها وتقهرها؛ لأنها بالشر والفتنة والآفات مولعة، هي خزانة إبليس، منها خرج وإليها يعود، وهي تزين لصاحبها تسعة وتسعين باباً من أبواب الطاعة والخير؛ لتظفر به في كمال المائة، فكيف يسد السيل العريض، من ليس يعرف مجراه؟
  وكذلك النفس إذا جمحت وطغت، كيف يحدها من ليس يعرف شرها وهواها؟ وكيف يعرف ذلك من ليس يعرف عدوه ودنياه؟ فكيف يعرف عدوه ودنياه من ليس يختلف إلى العلماء؟ ولا يجالس الحكماء؟ ولا يخالط الصالحين؟
  فإذا أردت النجاة فتعلم العلم من العلماء، وخذ الحكمة من الحكماء، ولا تشد على نفسك مرة، وترخي عنها مرة، ولكن أقبل عليها بعزم صحيح، وورع شحيح، وصبر ثخين، وأمر متين، حتى تمنعها عادة شهواتها.
  ثم اجمع أطرافك إلى وسطك - أعني إلى قلبك - وهو أن تُحَكِّم القلب على الجوارح، ولا تحكم الجوارح على القلب، ولا يتم لك عمل ولا يخلص إلاَّ بهذه الصفة.
  فتغمض عينيك عن الحرام والشهوات، فإن العين جاسوس القلب. ثم الأذنان فلا تقرع فيهما الشر والخنا والنمائم والكذب.
  ثم اللسان خاصة يجب أن تنزهه من الكذب والغيبة والمجادلة والفضول والمقاولة والشبهات، فإنها معدن قذارة النفس، وهو ترجمان القلب، فمهما لم ترد الترجمة عن القلب يموت بمادة البدن.