الوافد على العالم،

القاسم بن إبراهيم الرسي (المتوفى: 246 هـ)

[ماذا يجب على المتقي العارف]

صفحة 83 - الجزء 1

  افهم لو أن رجلاً بصير العينين بقي في بيت مظلم، فسُدَّ بابه، فهو لا يهتدي إلى شيء فيه مخرجه، أليس يكون فيه محتاراً، لا ينتفع ببصر عينيه مادام البيت مظلماً، حتى إذا فتح عليه الباب وخرج ورأى ضوء الشمس؟! كذلك المتعلم يكون في بيت الجهل موثقاً عليه بأنه لا يهتدي إلى الخروج، حتى يفتح عليه العالم العارف، لأن المتعلم يستضيء بنور العالم، ويهتدي إلى منارة طرقه، ويخرج من ظلمة الجهل إلى نور العلم، فعند ذلك يكون علمه خالصاً صافياً من الآفات.

  فإنما مثل الجاهل مثل مكفوف البصر، لا ينتفع أبداً بضوء النهار، فالليل والنهار في الظلمة عليه سواء، كذلك الجاهل لا يعرف ما هو فيه من ظلمة الجهل وعمى القلب، ولا يميز بين الحق والباطل. والجهل داءٌ وشينٌ، لا يداويه غير العلم، والعلم شفاءٌ وزين، لا يدخل معه داءٌ ولا شين.

  وليس العلم علم اللسان، المعلق على ظاهر الإنسان، الخالي عن القلب، إنما هذا مثله مثل شبكة الصياد التي ينثر عليها الحب للطير، وليس يريد بذلك مرافقة الطير ولا منفعتها، لكنه يريد أن يصطادها بذلك الحب المنثور على الشبكة، كذلك عالم السوء لا يريد بعلمه رضا الله، ولكنه يريد رضا نفسه ومنفعتها، وقد جعل هذا علمه شبكة يصطاد بها حطام الدنيا.

  وإنما العلم المنجي علم القلوب المنيرة، الصافية الخائفة، القانعة باليسير، السليمة من الآفات والتخاليط، وليس العالم من قد أسكره حب الدنيا، وإنما العالم الذي يعمل للآخرة الباقية، فهو منتظر للنزول والانتقال، مشغول يخاف أن يفاجئه الموت بحال من الأحوال، فقلبه محزون، وشره مأمون، يجول بقلبه في الجنَّة أحياناً، وفي النار أحياناً، يخاف أن يكون من أصحاب النار، ولا يكون من أصحاب الجنة، فليس له همة غير تفتيش الآفات، وكثرة الذكر في كل حركة وسكون.