[في المولد النبوي الشريف]
  لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ٩٤}[يونس]، فعقب قائلاً: لا أسأل ولا أشك.
  ومضى ÷ في طريقه ينفذ أوامر الله داعياً مَنْ حوله إلى الإيمان بالله وكتبه ورسالته، مندداً بالأصنام وعبادتها، لم ترهبه غطرسة قريش وجبروتها وتهديدها ووعيدها، ولم يلِن لضغوطهم ولا لمغرياتهم.
  فلما عرف القرشيون وغيرهم أن دعوته تشكل خطراً على امتيازاتهم وعلى مصالحهم الخاصة، قرروا أن ينكلوا بجميع أتباعه من العبيد والمستضعفين فقتلوا وعذبوا وأجاعوا وشردوا رجالاً ونساءً وشيوخاً، وبقيت الدعوة تسري في الأوساط والأمور تشتد وتتفاقم، ولكن عزيمته كانت أقوى من جميع الصعاب والأحداث.
  وقيض الله له عمه أبا طالب وولديه جعفراً وعلياً، الذي كان أول من آمن به وبذل هؤلاء حياتهم في سبيله، وانتصر محمد ÷ وأذل الله قريشاً وأنصارها، وأصبحت عشرات الملايين من الأصوات في مشارق الأرض ومغاربها تردد آناء الليل وأطراف النهار: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله».
  وكان الْمُنْضَمُّون إلى هذا الدين المحمدي دين الإسلام الصحيح، كانوا في بداية الدعوة قلة قليلة وعدداً محدوداً، ولكن الإيمان الذي ملأ نفوسهم هز المجتمع المكي برمته، فدارت في أندية مكة أحاديث دعوة محمد ÷ إلى الإسلام، هذا الدين الذي يهدد مصالح المتكبرين، ويدفن آمالهم وأطماعهم.
  فتجمعوا ليتدارسوا الحال قبل أن تستفحل الدعوة، وما دام عدد المؤمنين بمحمد ÷ قليلين، وعند ذلك قرر المجتمعون بأن كل من تصبو نفسه لدين محمد أو ساهم في توفير المناخ له، أو انخرط في سلكه أو أيده من قريب أو بعيد، فإنه يستحق التأديب والتعذيب، ومن تمادى فدمه مهدور بين المناوئين للدعوة، وجزاؤه التنكيل والقتل.
  ولكنه كان من العسير تنفيذ هذا القرار لأول مرة خاصة على أبناء القرشيين