درر الفرائد في خطب المساجد،

عبد الله بن صلاح العجري (المتوفى: 1427 هـ)

[في المولد النبوي الشريف]

صفحة 310 - الجزء 1

  والهاشميين والأسر العريقة؛ خشية أن تتصاعد الأزمة، فلتكن بداية عملية التأديب مع المستضعفين من العبيد والغلمان والحلفاء، الذين لا سلطان لهم على مجابهة المتحكمين وأهل النفوذ، ففي ذلك على ما يتوهمون ضرب عصفورين بحجر واحدة؛ لأن في ذلك ردعاً لفتيان العرب وقبائل مكة إذا شاهدوا تعذيب الضعفاء، ثم في ذلك رجوع العبيد والغلمان.

  فأسرعت الجلاوزة إلى دار الأرقم مقر اجتماع النبي ÷ بالصفوة المؤمنة، وقبض الجبابرةُ على ياسر بن عامر وولده عمار وزوجته سمية، وعلى بلال الحبشي وغيرهم، وهنالك تبدأ عملية التعذيب، فيقومون بطرح هؤلاء المؤمنين في رمضاء مكة في وقت الحر الشديد وبدون ثياب يتوقون بها، ويضعون فوقهم الأحجار الثقيلة، ويكوونهم بالنار، ويصهرون أجسادهم الطاهرة بقطع الحديد المحماة، ويمزقون جلودهم بالحراب، كل ذلك يجري دون رحمة؛ لأن الحقد على محمد ÷ وعلى المؤمنين به قد أحال هؤلاء الجبابرة الظلمة إلى أوحاش كاسرة.

  وكنت قد قررت أن يكون موضوع الخطبة الحديث حول شخصية الرسول ÷ ولكن يا ترى من الذي يستطيع الوصول إلى عشر العشير من أخلاقه وخصائصه! إذ قد أخذ محمد ÷ من الإنسانية أنبل ما فيها، وأقصى ما يمكن أن يتصوره العقل من عظمة الإنسان وكماله، وقد أوجز الله سبحانه صفات حبيبه وصفيه بهذه الكلمة الجامعة الرائعة، وهي قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ٤}⁣[القلم].

  ومن هذه الأخلاق العظيمة النبيلة، الصدق والأمانة والشجاعة والإيثار والاعتدال في كل الأمور، فالصادق الأمين لقبه بين قومه قبل نبوته، وأما إيثاره فكان ينفق على المحتاجين كل ما يملك ولا يبقي منه لنفسه وأهله إلا دون الكفاف.

  ومن أقواله: «والذي نفسي بيده ما يسرني أن أُحداً يتحول لآل محمد ذهباً أنفقه في سبيل الله، وأموت يوم أموت وعندي منه ديناران أرصدهما لدين إن كان»⁣(⁣١).


(١) رواه الإمام أبو طالب في أماليه عن ابن عباس.