الخطبة الثانية
  بحقارتِها ودناءتِها فقد حَرَمَها أحبابَه ومنعها عن أنبيائِه ورسلِه، وأفضلِ الخلقِ عندَه، ولم يؤتِهم منها شيئاً، ولو كان فيها خيرٌ لما منعها عنهم، ولنا في أنبياءِ الله خيرُ أسوةٍ وأعظمَ قدوةٍ، ويكفينا أن نرضى بما رضيَ اللهَ لهم، وأن نعيش كما عاشوا أسوة بهم، واقتداء بحالهم، فقد رسموا لنا أوضح طريق يوصلنا إلى الجنة، وهذا نبينا نبي الرحمة ÷ قبضت عنه أطراف الدنيا ووطئت لغيره أكنافها.
  وفطم عن رضاعها وزوي عن زخارفها بل لقد نهاه الله تعالى أن يمد نظره إليها قال تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} فكان ~ وعلى آله يربطُ على بطنه الحجر والحجرين من الجوع وتمضي عليه أيام لا يشعل في بيته نار وهو اشرف خلق الله وأحبهم إليه.
  وهذا نبي الله موسى كليمُ اللهِ ~ كان يقولُ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وواللهِ ما سألَ ربَّه إلا خبزاً يأكله فقد كان يأكلُ من بقلةِ الأرضِ حتى لقد كانت تُرى حضرةُ البقلِ من شفيفِ صفاقِ بطنهِ لضعفِه وهزالِه تشذبَ لحمُه.
  وهذا عيسى كلمةُ اللهِ التي ألقاها إلى مريمَ سلامُ الله عليهما كان يبرئُ الأكمهَ والأبرصَ ويحي الموتى بإذنِ الله. وكان يقولُ للترابِ كن ذهباً بإذن الله فيكون، ثم يعيدُه تراباً كما كان لا يأخذ منه شيئاً، بل لقد بلغَ من زهدِه وتقشُّفِه في هذه الدنيا ما يحيرُ العقولَ، فقد كان يتوسدُ الحجرَ ويلبسُ الخشنَ ويأكل الجشبَ وكان إدامُه الجوعَ وسراجُه بالليلِ القمرَ، وظِلالُه في الشتاءِ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، كان طعامُه وفاكهتُه ما أنبتت الأرضُ من الأعشابِ والبقولِ، ولم يكن له من زوجةٍ تفتنُه ولا ولدٍ يُحزنه ولا مالٍ يلهيه ولا طمعِ يُذله، دابتُه رجلاه وخادمُه يداه، كان يفترشُ الأرضَ ويلتحف السماء.
  عبادَ الله: هكذا كانت حياةُ أحبابِ اللهِ وهكذا أمضى أنبيا الله فترة حياتهم في