سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 282 - الجزء 1

  حيث قال عز من قائلٍ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}، وما دام الحالُ على هذا المنوالِ فلا ينبغي لمخلوقٍ أن يأمنَ مكرَها، أو ينخدعَ بزخرفِها وغرورِها.

  بل عليه أن يكونَ على قمةِ الحذرِ منها، وأن يدَّرَّع الصبرَ ويتجلببَ الجلدَ، وأن لا يبني على راحةٍ على ظهرها، فالعاقلُ هو من عرفَ حقيقةَ الشيءِ وصارَ على بصيرةٍ منه، ليتعاملَ معه على مقتضى طبعه وجبلته، وأن لا يرغب في معدوم، وألا يحزن على مالا يوجد.

  فالعاقلُ هو العارفُ بحقيقةِ الحياةِ والمدركُ لِكُنْهِها والغايةِ من وجودِها،

  وأنها ليست إلا دارَ عناءٍ ومشقةٍ ومقرَ بلاءٍ واختبارٍ مصداقاً لما أخبرَ به تعالى في كتابِه حيثُ قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}، وقوله لآدم # عندما حذره من كيد الشيطان: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي أن خروجَكَ من الجنةِ إلى الدنيا هو خروجٌ من دارِ الراحةِ والهناءِ إلى دارِ المحنةِ والشقاء، ولكن الإنسانَ بعنادِه، يحاولُ دائماً أن يقلب الحقائق، وأن يسير بعكس اتجاه الريح {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} فتراه دائماً يسعى في طلب المستحيل، وفي نيل المحال ولا يثنيه رادع، ولا يرده زاجر.

  يحاول البحث عن المسك في الوحل ويطلب الدر في التراب.

  ولو أنه عرف الحياة، وما خلقت لأجله، لوفر على نفسه التعب، ولكفي مؤونة البحث عن المسرة والراحة التي لا وجود لها على ظهر هذه الحياة الدنيا

  فالحياةُ الدنيا هي ضدُّ الآخرةِ، وإذا كانت الآخرةُ هي دارُ النعيمِ المقيمِ والسرورِ الدائم، فالحياةُ الدنيا هي دارُ البلاءِ ومقرُّ الوحشةِ، ومهما طرأَ على هذه الحياةِ من مسراتٍ عاجلةٍ ولذاتٍ عابرةٍ، فإن العاقلَ لا يلتفتُ إليها ولا ينخدعُ بها ولا يُلقي لها بالاً، لأنها حالات نادرة، وأحداث شاذة، وقعت على غير المألوف، لله من ورائها مآرب أخرى.