الخطبة الأولى
  بما قسمه الله له، واختاره له إنه بعبادة خبير بصير وأنه لم يظلمه منها شيء.
  عبادَ الله: الحياةُ الدنيا خيرُها زيادةَ، وشرُّها بقاء على حالها، وثبات على أصلِها فليس في ذلك ظلم ولا هضم.
  ولكن الإنسان كما قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ١٥ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} {إنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ٦ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ٧ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
  عبادَ الله: حذار أن تظهرَ منا بادرةَ استياءٍ أو عتبٍ، على ما فاتَ في هذه الحياة فلا نُحاولَ أن نجنيَ من الشوكِ العنبَ، ومن الصَّبِرِ الْمَنَّ، فليس في هذه الدنيا راحةٌ أو هناءٌ، لأن اللهَ لم يملكها إلا التعب والعناء ولم يودع فيها إلا البلاءَ والشقاءَ، وليست روضةَ غناء، مورقةً بالمسرةِ، باسقة بالهناءِ، وارفة بالراحة، ودانية بالسعادة ويانعة بالبهجة، فلا تطلبوا من هذه الدنيا ما ليس فيها، وما لم يملكها خالقها، فيذهب تعبكم سدى، كمن يبحث عن الماء في قاع الصحراء فلا يرى إلا السراب يحسبه ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
  لكنها طبيعةُ البشرِ، العنادُ والشقاقُ، دائماً يقتحمُ غمار هذه الحياة، بلا روية ولا نظر ولا اعتبار، رغم نداءات العقل وزواجر الفطرة، تراه يصر مستكبراً كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا، ولو أنه استجاب لنداء عقله، وحكم كتاب الله فيما أشكل عليه من أمره، وسار على دربه واستضاء بنوره، لما مسه تعب ولا لغوب ولعاش مطمئن البال قرير العين قانع النفس.
  عبادَ الله: يكفي العاقل وصف الله للدنيا في محكم الذكر المبين حيث قال عزمن قائل {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ