الخطبة الثانية
  مَّذْكُوراً ١ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً}.
  عبادَ الله: لقد سمى اللهُ سبحانَه نفسَه رباً ونصَّ على ذلك في كثيرٍ من الآياتِ تصريحاً وتلميحاً. وما أكثرُّ ما تمر عليها الألسنُ وهي معرضةٌ عنها، إن صدقت انحصرت على التعبدِ باللفظِ وهجرتْ المعنى متمسكةً بالقشورِ، نابذةً للبِّ غافلةً عن كنه الحقيقةِ والمراد منها.
  إن كلمةَ ربٍّ مع اختلافِ مواضعِها وتنوعِ إضافاتِها هي اسمُ الله تعالى المطلقُ التصرفُ في خلقِه مالكُ التدبيرِ في ملكِه، والتربية: هي إنشاءُ الشيءِ حالاً بعد حالٍ إلى التمام، والمربي: هو المتولي لهذا الإنشاء والقائم عليه من بدايته إلى نهايته، والمتولي لمراحل نموه بالعناية والرعاية والمدبر له طورا بعد طور بحفظه وكلاءته.
  وواللهِ لو أدركَ العبدُ معنى الربوبيةِ، وأحاطَ علماً بما تضمنت في طياتها من معاني العظمة والجلال الذي يحيطه الله بالخلق من الرعاية والعناية واللطف والرحمة لذهل عقله عن إدراكها وكلَّ لسانه عن وصفها ولوقفت الألباب مبهورة إجلالاً وإعظاماً وهيبةً ووقاراً لمالكها ومربيها. وانقادت النفوس راضية مرضية خاشعة ذليلة لمالكها الذي اشتراها، وخلقها فسواها وألهمها فجورها وتقواها، ومن إليه مردها ومثواها. ولتطأطأت الرؤوس الشامخة، والأنوف المستكبرة، خاشعة لله ساجدة لخالقها معترفة لربها بالربوبية والعزة خانعة بالعبودية والذلة.
  عبادَ الله: إلى متى هذه الغفلةُ والذهولُ أيقضوا العقولَ ونبهو النفوسَ وأفيقوا من نومِ الغفلاتِ وموتِ الجهالاتِ، ولنفكرَ بجدٍّ وبصيرةٍ فيما حوالينا كما يأمرُنا اللهُ بالتفكرِ في الأنفسِ وفي مبدأِها ومنشأِها في قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} فكرْ من أنتَ؟ ومن أين أتيتَ؟ ومن أي شيء أتيت؟ {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.