سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 299 - الجزء 1

  إن العقلَ يحتمُ علينا طاعةَ الوالدين ويحرمُ عصيانَهما، والكتابُ الكريمُ قد أتي مقراً لذلك حيث قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} كما نهانا عن أدنى سببٍ في إيذائِهما بقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} فلماذا أوجب اللهُ علينا ذلك؟ لأنهما السببُ في وجودِك ولأنهما محلُّ نشأتِك، فأوجبَ اللهُ طاعةَ الأبِ لأنه المنفقُ عليكَ، وأوجبَ اللهُ طاعةَ الأمِّ لأنها حملتْكَ تسعةَ أشهرٍ، ولأجل رعايتهما وحضانتهما وما يتصل بذلك خلال مراحل الصبا والطفولة. فالله تعالى له أعظم المنة عليك وفضل الله عليك أجلّ منهما فمن لولاه رعاك وغذاك وعطف قلوبهما عليك وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.

  وكذا فإن العقلَ يحكمُ بقبحِ عصيانِ المعلمِ لتعليمه، وقبح عصيان الولي لرعايته، وقبح عصيان السيد لملك يمينه. فإن كل واحد من هؤلاء يحكم العقل له بالفضل والمنة على صاحبه، لأجل ما بذلَه من الإحسانِ إليه، فعلينا أن نتذكرَ أن الله المربي والمنعمُ بذلك كلِّه، وله من وراء كل ذلك أعظم المنة والفضل، فلا ينبغي أن نتناسى فضله أو أن ننكر جميله، ونجحد معروفه وعظيم إحسانه، وهو المنعمُ بالنعمِ الجسامِ المتفضلُ بالإحسانِ.

  فهو المربي الحقُّ للبشريةِ، والمعيشُ لهم، والحافظُ لهم، واللهُ سبحانه وتعالى لم يذكر مراحلَ الخلقِ وابتداء الإنشاء وتقلبنا في الأرحام طورا بعد طور، نطفة فعلقة فمضغة، إلا تمنناً على الإنسانِ وتذكيراً له بالإحسانِ، ليعرف عظمة منة الله عليه في خلقه وإبداعه كما حكى الله تعالى ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً}.