سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 300 - الجزء 1

  فإذا تأملَ الإنسانُ ذلك أذعنَ لربِّه وخالقِه وأجلّه ووقره وعظمه، كما قال تعالى مصرِّحاً بذلك ومعاتبا لنا على نسيانِه بقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً ۝ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} أي مالكم لا توقرون الله سبحانه وتهابونه، وقد خلقكم أطوارا يقلبكم من حال إلى حال، أطوارا متوالية في أبدع نظام وأكمل صورة. لا إله إلا الله ما أكثر الآيات البينات وما أقل العقول المعتبرات {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ٧٤ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ٧٦} من أنت يا مسكين؟ ومن أي شيء أنت؟ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ٧٧ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}.

  عبادَ الله: ما أبعدَ الإنسانَ وأشدَّ جراءتَه على خالقِه ومربيه، ما أغفلَه عما فيه مصلحته، وما أجرأه على هلاكِ نفسِه بيده {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.

  إن الجاهلَ بنفسِه أجهلُ بربه، ولا يعرف الخالق إلا بمعرفة المخلوقِ، بل لقد جعل اللهُ من النفسِ وسيلةً إلى معرفتِه وطريقاً للعلم به بما تحمل في طياتها من آيات بينات وعبر نيرات تشهد بوحدانيته وتقر بجلاله كما ورد في الأثر: (أعرف نفسك تعرف ربك)، والجاهل بنفسه أجهل بربه.

  ولكن ومع أبلغ الأسف ما أقل من نظر واعتبر وعرف نفسه وعرف قدرها وعرف حق خالقها ومبديها، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ١٢ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ١٣ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}.