الخطبة الثانية
  لا يستوي من يعمر المساجدا ... يدأب فيها قائمًا وقاعدًا
  ومَن يُرَى عن الغبارِ حائدًا
  عِبَادَ الله:
  لقد كانَ الآباءُ حَرِيصِينَ على تَنظيفِ المساجدِ، وكَنْسِها، وتَطيِيبِها، والمحافظةِ عليها، وتَوفيرِ الماءِ لَها، فَبَنَوا لَها البِرَكَ الكبيرةَ، وَشَقُّوا لَها السَّواقِيَ لِمياه الأمطارِ، وَحَفَرُوا لها الآبارَ، وخَدمُوها بالفُرُشِ المَغْزُولِ بِاليدِ، والمنْسُوجِ مِن الشَّعَرِ واللِّيْفِ، وَوَفَّرُوا لَها المَصَاحِفَ المَنْسُوخةَ بالأَيْدِي، رَغمَ قِلَّةِ الأورَاقِ وَشِحَّةِ الموَارِدِ، وعُسْرِ الْحالِ إِلَّا أنَّهم لم يَتَوانَوا لَحظَةً واحدةً فِي خِدمَةِ بُيوتِ اللهِ، وَإِقَامَةِ شَعَائِرِه التي أَمَرَ بِتَعْظِيمِها وِعَمارَتِها.
  أَمَّا الآنَ ومع تَوَفُّرِ الإِمكانياتِ فَقد أَصبحتْ حاَلةُ المَساجدِ يُرْثَى لَها، امْتَلَأتْ بِالأَتْرِبةِ والغُبارِ، وَلا تَرَى مَن يَمُدُّ يَدَه لِتَنْظِيفِها. بل على العكس هناك من يتعمد توسيخها بالمكسَّراتِ و البصقِ في جُدرانِها، ومنهم مَن يُدْخِلُ أحذيتَهُ وهي تقطرُ بالماءِ النجسِ على فراشِها، ومِن الناسِ مَنْ يحسدُ المسجدَ حتى من الماءِ ويمنعه عنه، فلا يجدُ المصلون ما يتوضؤون به، إنَّ هذا كلَّه حَسَدٌ للهِ ومنعٌ لنعمة الله وصدٌّ عن المساجدِ؛ لأنَّ الماءَ حياةُ المساجدِ فإذا عَدِمَ الماءُ هُجِرَتِ المساجدُ وغابَ عنها المصلونَ، وهنالك شائعةٌ خطيرةٌ عَمَّتِ المساجدَ في هذا الزمانِ، حيثُ نجدُهم يفتحونها نصفَ ساعةٍ لكلِّ فريضةٍ، ثم يُغلقونها ويمنعون مَنْ جاءَ للصلاةِ بعدَ ذلكَ، فلا نعلمُ أيَّ بدعةٍ ابتدعَها هؤلاءِ في المساجدِ، وأيَّ مصيبةٍ اجْتَلَبُوها على بيوتِ اللهِ.
  تخيلْ وأنتَ في أعظمِ مدينةٍ وتأخرتَ ولوْ لخمسِ دقائقَ عنْ صلاةِ الجماعةِ، هلْ تُصَدِّقُ أنك لم تجدْ مسجداً مفتوحاً؟ كلُّ الجوامعِ مقفلةٌ وجميعُ دوراتِ المياهِ، ولو طلبتَ مِنْ قَيِّمِ الجامعِ ليفتحَ لكَ لتصليَ لَرَفَضَ زاعماً أنَّ الدوامَ قد انتهى، فهل للهِ دوامٌ يَغلقُ فيه أبوابَهُ عن سائِلِيه وطالبِيه؟ إلى أين يذهبُ المسافرُ