سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الأولى

صفحة 148 - الجزء 2

  الهلاكُ، وما لهم منها فكاكٌ، قد شُدَّتْ أقدامُهم إلى النواصي، واسْوَدَّتْ وجوهُهم من ظلمةِ المعاصي، ينادونَ مِن أكنافِها، ويصيحونَ في نواحيها وأطرافِها: يا مالكُ، قد حقَّ علينا الوعيدُ، يا مالكُ، قد أثقَلَنا الحديدُ، يا مالكُ، قد نَضَجَتْ منا الجلودُ، يا مالكُ، أخرِجْنا منها فإنَّا لا نعودُ، فتقولُ الزبانيةُ: هيهاتَ لَاتَ حِيْنَ أمانٍ! ولا خروجَ لكمْ من دارِ الهوانِ، فا {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ}، ولو أُخْرِجْتُم منها لكنتم إلى ما نُهيتُم عنَهُ تعودونَ، فعندَ ذلكَ يَقْنَطُونَ، وعلى ما فَرَّطوا في جنبِ اللهِ يتأسفونَ، ولا يُنجيهم الندمُ، ولا يُغنيهم الأسفُ، بل يُكَبُّونَ على وجُوهِهِم مَغْلولينَ، النارُ من فوقهم، والنارُ من تحتهم، والنارُ عن أيمانِهم، والنارُ عن شمائلِهم، فهم غَرْقَى في النارِ، طعامُهم نارٌ، وشرابُهم نارٌ، ولباسُهم نارٌ، ومِهَادُهم نارٌ، فهم بين مُقَطَّعَاتِ النيرانِ، وسَرَابيلِ القَطِرَانِ، وضَرْبِ المقَامِعِ، وثقلِ السلاسلِ، فهم يتَجَلْجَلُونَ في مَضَايِقَها، ويتحطمونَ في دَرَكَاتِها، ويضطربونَ بين غَوَاشيها، تَغْلي بهِمُ النارُ كَغَلي القدورِ، ويهتفونَ بالويلِ والثبورِ، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ١٩ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ ٢٠ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ٢١}، تُهَشَّمُ بها جِبَاهُهم، فيتَفَجَّر الصديدُ من أفواههم، وتنقطعُ من العطشِ أكبادُهم، وتسيلُ على الخدودِ أحداقُهم، ويسقطُ من الوجناتِ لحومُها، ويَتَمَعَّطُ من الأطرافِ شُعُورُها، بل وجلودُها، و {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} وهم مع ذلك يتمنونَ الموتَ فلا يموتون.

  فكيف بِكَ لو نظرتَ إليهم وقَدِ اسودّتْ وجوهُهم أشدَّ سواداً من الحميمِ، وأعميتْ أبصارُهم، وأبكمتْ ألسنَتُهم، وقصمتْ ظهورُهم، وكُسِرَتْ عظامُهم، وجُدِعَتْ آذانُهم، ومُزِّقَتْ جلودُهم، وغُلَّتْ أيديهم إلى أعناقِهم، وجُمِعَ بين نواصيهم وأقدامِهم.