الخطبة الأولى
  وتعليمِهِ؟ كَلَّا إنه مشغولٌ بحبِّ الدنيا وعبادَتِها؟ إنه مشغولٌ بحبِّ المالِ وجمْعِهِ وادِّخَارِهِ، والمباهاةِ بهِ والمكاثرةِ، والتكبرِ والتَّغَطْرُسِ على الضعفاءِ والمحرومينَ.
  تَذَكَّرْ أيها الأخُ المسلمُ مَصَارعَ آبائِكَ وإخوانِكَ وجيرانِكَ وأقرَانِكَ، ومن مضى قبلك ممن تعرفهم أنت، تَذَكَّرْ موتَهم ومصَارِعَهم تحتَ الترابِ، وتذكرْ صُوَرُهم في مناصِبِهم وأحوالِهِم، وتأملْ كيفَ محا الترابُ محاسنَ صُورِهم، وكيفَ تَبَدَّدَتْ أجزاؤهم في قُبُورِهم، وكيفَ أرملوا نساءهُم، وأيتموا أولادَهم، وضيَّعُوا أموالَهم، وخَلَتْ مِنْهُم مساجدُهم ومجالسُهم، وانقَطَعْت آثارُهم.
  فانظرْ أخي المسلمَ هلْ نفعَتْهم الدنيا وشهواتُها، أم هلْ نفعَتْهمُ الأموالُ والبنونُ وفتنَتُها، أم هل نفعَهم الجاهُ والسلطانُ والتكبرُ والتغطرسُ على ظهرِها؟
  كَلَّا واللهِ لم ينفعْهم شيءٌ منها.
  باتوا على قُلَلٍ الأجبالِ تحرُسُهم ... غلبَ الرجالُ فلم تمنعْهمُ القُلَلُ
  واستنزلوا بعد عزٍّ مِن مَعَاقِلِهم ... إلى مقابرِهم يا بئسَ ما نزلوا
  ناداهمُ صارخٌ مِن بعدما دُفنوا ... أين الأَسِرَّةُ والتيجانُ والحُلَلُ
  أين الوجوهُ التي كانت مُنعمةً ... مِنْ دُونِها تُضْرَبُ الأستارُ والكللُ
  فأفصحَ القبرُ عَنْهُم حينَ ساءَلهم ... تلكَ الوجوهُ عليها الدُّودُ تَقْتَتِلُ
  قد طالَ ما أكلوا دهراً وما شَرِبُوا ... فأصبحوا بعدَ طولِ الأكلِ قد أُكِلوا
  وطالما كنزوا الأموالَ وادَّخَرُوا ... فخلفوها على الأعداءِ وارتحلوا
  وطالما شيَّدوا دُوْرًا لتُحْصِنَهم ... ففارقوا الدورَ والأهلينَ وانتقلوا
  أضحتْ مساكنُهم وحشاً مُعَطَّلَةً ... وساكنُوها إلى الأجداثِ قد رحلوا
  تلك الوجوهُ الناعمةُ، تلك الوجوهُ الحسنةُ، تلكَ الوجوهُ الجميلةُ قد دُسَّتْ في الترابِ والديدانُ تنهَشُها وتتنقَّلُ عليها، قد طالما أكلوا، وطالما شربوا، أكلوا أنواعَ الطعامِ الفاخرِ، والمشروباتِ اللذيذةِ، ثم أصبحوا بعدَ طولِ الأكلِ مأكلا للديدان والهوام.