الخطبة الأولى
  يقولُ أميرُ المؤمنينَ وسَيِّدُ الوصيينَ #: (فَإِنَّكُمْ لَوْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَوَهِلْتُمْ، وَسَمِعْتُمْ وَأَطَعْتُمْ، وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا عَايَنُوا، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الحِجَابُ!
  وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ، وَهُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ، وَبِحَقٍّ أَقَولُ لَكُمْ: لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ، وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّماءِ إِلَّا البَشَرُ) ..
  ويقولُ أميرُ المؤمنينَ # في وصفِ الموتى وأهلِ القبورِ، يقول: إننا لو نظرنا في حالِهم بعقولِنا، وسألناهم عن حالِهم (لقَالُوا: كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ، وَخَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ، وَلَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى، وَتَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ، وَتَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ، وَتَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ، فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا، وَتَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا، وَطَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا، وَلَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً، وَلَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً، فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ، أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ، وَقَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ، وَاكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ، وَتَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا، وَهَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا، وَعَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا، وَسَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا، مُسْتَسْلِمَاتٍ، فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ، وَلَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ، لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ، وَأَقْذَاءَ عُيُونٍ، لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ، وَغَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي، فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ، وَأَنِيقِ لَوْنٍ، كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ، وَرَبِيبَ شَرَفٍ، يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ، وَيَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ، ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ) ..
  فكيفَ نغفلُ عن الموتِ والموتُ لا يغفلُ عنَّا يومًا واحداً؟
  وكما رُوِيَ - والله أعلم - «مَا مِنْ بَيْتٍ إِلَّا وَمَلَكُ الْمُوْتِ يَقِفُ عَلَى بَابِهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا وَجَدَ الإِنْسَانَ قَدْ نَفَدَ أُكْلُهُ، وَانْقَطَعَ أَجَلُهُ، أَلْقَى عَلَيْهِ غَمَّ الْمَوْتِ، فَغَشِيَتْهُ كُرُبَاتُهُ وَغَمَرَتْهُ غَلَزَاتُهُ، فمن أهل بيته الناشرة شعرها، الضاربة وجهها،