الخطبة الأولى
  الباكية لشجوها، الصارخة بويلها، فَيَقُولُ مَلَكُ الْمَوْتِ: وَيْلَكُمْ مِمَّ الْفَزَعُ؟ وَفِيمَ الْجَزَعُ؟ مَا أَذْهَبْتُ لأِحَدٍ مِنْكُمْ رِزْقاً، وَلَا قَرَّبْتُ لَهُ أَجَلاً، وَلَا أَتَيْتُهُ حَتّى أُمِرْتُ، وَلَا قَبَضْتُ رُوحَهُ حَتَّى اسْتُؤْمِرْتُ، وَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَةً ثُمَّ عَوْدَةً ثُمَّ عَوْدَةً، حَتَّى لَا أُبْقِي مِنْكُمْ أَحَداً، فَقَالَ النَّبِيُّ ÷: «فَوَ الَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ يَرَوْنَ مَكَانَهُ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَهُ، لَذَهِلُوا عَنْ مَيِّتِهِمْ، وَلَبَكَوا عَلَى نُفُوسِهِمْ، حَتَّى إِذَا حُمِلَ الْمَيِّتُ عَلَى نَعْشِهِ رَفْرَفَ رُوحُهُ فَوْقَ النَّعْشِ وَهُوَ يُنَادِي: يَا أَهْلِي، وَيَا وَلَدِي، لَا تَلْعَبَنَّ بِكُمُ الدُّنْيَا كَمَا لَعِبَتْ بِي، جَمَعْتُ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ وَغَيْرِ حِلِّهِ، ثُمَّ خَلَّفْتُهُ لِغِيرِي بِالْمُهَنَّاةِ لَهُ، وَالتَّبِعَةُ عَليَّ، فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَا حَلَّ بِي».
  ويقولُ أميرُ المؤمنينَ # وهو يصفُ المغترينَ بالدنيا حينما يهجُمُ عليهم ملكُ الموتُ انظروا: (كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ، وَجَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ، وَقَدِمُوا مِنَ الآْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ، فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، وَحَسْرَةُ الْفَوْتِ، فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ، وَتَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ، ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً، فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَبَيْنَ مَنْطِقِهِ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ، يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ، وَيَسْمَعُ بِأُذُنِهِ، عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ، وَبَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ، يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ، وَفِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ، وَيَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا، أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا، وَأَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَمُشْتَبِهَاتِهَا، قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا، وَأَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا، تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يُنَعَّمُونَ فِيهَا، وَيَتَمَتَّعُونَ بِهَا، فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ، وَالْعِبْ ءُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَالْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا، فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ، وَيَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَيَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ، فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ، حَتَّى خَالَطَ سَمْعَهُ، فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ، يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ).
  نعمْ أيها الأخوةُ، تَصَوَّروا حالَ الإنسانِ حينما يكونُ في هذهِ السكراتِ