الخطبة الثانية
  أيقنَ بالحسابِ كيفَ يُذْنِبُ، ولمن أيقنَ بالنارِ كيف يضحكُ، ولمن رأى الدنيا وتقلُّبَها بأهلِها كيفَ يطمئنُ إليها».
  ويقولُ في حديثٍ آخرَ: «يا بنَ آدمَ، كلُّ يومٍ ينقصُ من عمرِك وأنتَ لا تدري، ويأتي كلَّ يومٍ رزقُكَ من عندي وأنتَ لا تحمدُهُ، فلا بالقليلٍ تقنعُ، ولا بالكثيرِ تشبعُ.
  يا بنَ آدم، ما مِنْ يومٍ جديدٍ إلا ويأتيكَ مِن عندي رزقٌ جديدٌ، وما مِنْ ليلةٍ إلا ويأتيني ملائكتي من عندِك بعملٍ قبيحٍ، تأكلُ رزقِي وتعصيني، وأنتَ تدعوني فأستجيبُ لكَ، فنعمَ المولى أنا، وبئسَ العبدُ أنتَ، تسألُني فأعطيكَ، وأسترُ عليكَ سوءًا بعدَ سوءٍ، وقبيحًا بعدَ قبيحٍ، أنا استحي منكَ وأنتَ لا تستحي مني، وتسألُني وتذكرُ غيري، وتخافُ الناسَ وتأمنُ غضبي، يا عبيدَ الدنانيرِ والدراهمِ، إني ما خلقتُ لكم الدنانيرَ والدراهمَ إلا لتأكلوا بها رزقي، وتلبسوا بها ثيابي، وتُنفقوا بها في سبيلي، فأخذتم كتابي وجعلْتُموه تحتَ أقدامِكم، وأخذْتُم الدنيا فجعلْتُموها فوقَ رؤوسِكم، ورَفَعْتُم بيوتَكم وخَفَضْتُم بيوتي، وآنَسْتُم بيوتَكم وأوْحَشْتُم بيوتي، يا عبيدَ الدنيا، إنما مَثَلُكم كالقبورِ المُجَصَّصَةِ يُرى ظاهِرُها مليحًا، وباطنُها قبيحًا.
  يا بني آدمَ، إني لم أخلُقْكم عبثًا ولا جعلتكم سُدَىً، ولا أنا بغافلٍ عما تعملونَ، وإنكم لنْ تَنالوا ما عندِي إلا بالصبرِ على ما تكرَهونَهُ في طلبِ رِضَائي، والصبرِ على طاعَتِي أيْسَرُ عليكم من الصبرِ على النارِ، وعذابُ الدنيا أيسرُ عليكم من عذابِ الآخرةِ.
  يا بنَ آدم، أكْثِرْ مِنَ الزادِ فإنَّ الطريقَ بعيدٌ بعيدٌ، وجَدِّدِ السفينةَ فإن البحرَ عميقٌ عميقٌ، وخَفِّفِ الحِمْلَ فإنَّ الصراطَ دقيقٌ دقيقٌ، واخْلِصِ العملَ فإنَّ الناقدَ بصيرٌ بصيرٌ، وأخِّرْ نومَكَ إلى القبرِ، وفَخْرَكَ إلى الميزانِ، وشهوَتَكَ إلى الجنةِ، وراحتَكَ إلى الآخرةِ، ولذَّاتِكَ إلى الحورِ العينِ، وكُنْ لي أكُنْ لكَ، وتَقَرَّبْ إليَّ باستهانةِ الدنيا، وتَبَعَّدْ عنِ النارِ ببُغْضِ الفجارِ وحُبِّ الأبرارِ، فإنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أجرَ المحسنينَ.