الخطبة الأولى
  يحرصون على أوقاتِهم باغتنامِ أعمارِهم في العملِ لليومِ الآخرِ واتقاءِ يومِ الحسرةِ والندامةِ امتثالاً لأمرِ اللهِ القائلِ: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} فيا حسرةَ المقصرين ويا حسرةَ العاصين الذين أضاعوا أعمارَهم القصيرةَ في اللهوِ واللعبِ، وعرَّضوا أنفسَهم لشدةِ يومِ الحسابِ وذلَّتِهِ، ووفدوا على اللهِ بصحائفَ خاليةٍ من الحسناتِ، وأيديهم عاطلة من كلِّ خيرٍ، فقراءَ مفلسين، أذلاءَ منكسرين يدعون بالويلِ والثبورِ {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} الآنَ انكشفَ الغطاءُ، وأبصروا بعد العمى، ولكن بعد فواتِ الأوانِ، وهاهم اليومَ يسألون من اللهِ الرجوعَ إلى الدنيا ليصححوا خطأَهم، فهل إلى رجوعٍ من سبيلٍ؟ فيجابون: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ} {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}
  فيا حسرةَ المقصرِ والمفرطِ في طاعةِ اللهِ حين يستغيثُ ولا مغيثَ: {يَا حَسْرَتَا علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ}.
  عباد الله:
  أين من يبيعُ آخرتَهُ بدنيا حقيرةٍ لا بقاءَ لها؟ أين من باعَ كلَّ شيءٍ بلا شيءٍ؟ أين من باعَ الجنةَ بشهوةِ ساعةٍ؟ أين من ضَحَّى بالنعيمِ الدائمِ والفوزِ الأبديِّ بلذةٍ فانيةٍ، ذهبتْ لذتُها وبقيتْ تبعتُها؟
  إن الإنسانَ وإنْ طابَ عيشُهُ ودامَ نعيمُهُ إلى يومِ القيامةِ هادئ البالِ قرير العين، فلا يساوي كلُّ ذلك عذابَ ساعةٍ في النارِ، فكيف إذا كانت حياتُهُ كدًّا وشقاءً وهمًّا وعناءً، وفقرًا وشدةً، ثم يكون في الآخرةِ مِن وقودِ النارِ والعياذُ باللهِ.
  ابنُ آدمَ وإنْ عَاشَ ما عَاشَ فله من عمره ثلثُهُ؛ لأنَّ أولَ عمرِهِ طفولةٌ لهوٌ ولعبٌ، وآخرَهُ ضعفٌ وشيبةٌ وعجزٌ وكسلٌ، ولم يبقَ لَهُ إلا الجزءُ الأوسطُ الذي