الخطبة الثانية
  على ظهرِها يرى غيرَه ويراه غيرُه ويسمعُ ما حوله، ومع ذلك فإنه يظنُّ أنه لم يُؤتى أحدٌ من العذابِ مثلما أوتي، فكيف بمَن هو أشدُّ عذابًا وأبقى.
  ذلك الذي يعذبُ في أعماقِ النارِ، ويتقلبُ بين طياتِها، ويئنُّ في أطباقِها وبين أحضانِها في الدركاتِ السفلى، من فوقِه نارٌ ومن تحتِه نارٌ، ومن أمامِه نارٌ، ومن خلفِه نارٌ، {لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} إن فتحَ عينيه ملئتا ناراً وإن فتحَ فمَه امتلأ ناراً وإن تنفسَ امتلأ جوفُه ناراً، فراشُه نارٌ، ودفائه نارٌ {لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، يبقى على حالتِه هذه خالدًا مخلدًا إلى أبدِ الآبدين يدعو فلا مُجيبَ ويستغيثُ فلا مغيثَ، ويبكي فلا يُرحمُ وصارَ في المنسيين كمَنْ قد نُسي {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ} وما حالُ هذا بجنبِ من يوضعُ في اسطوانةٍ من نارٍ على قدرِ مقاسِه، يوضعُ فيها، ويحكمُ إغلاقُها ويوضعُ في أطباقِ النارِ، وفي ظلماتِ قعرِها، وشدةِ حرِّها، وذلك قولُ اللهِ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ١٩ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} لا يحتملُ القيامَ، ولا يطيقُ الجلوسَ، ولا يستطيعُ الحركةَ في أسوإِ حالٍ، وأشدِّ ضيقٍ، وأبعدِ مكانٍ لا يرى أحدًا، ولا يراه أحدٌ، ولا يسمعُ أحدًا، ولا يسمعُه أحدٌ، إن بكى لا يُرحمُ، وإن دعا لا يُجابُ.
  {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والأشدُّ من هذا كلِّه أنْ ييأسَ من الخروجِ ويقنطَ من النجاةِ ويتيقنَ أنه الخلودُ، وما أدراكَ ما الخلودُ؟ يكفي المرءَ حسرةً وزاجرًا عن العصيانِ أن يتخيلَ الخلودَ أنه الأبدُ الذي لا نهايةَ له، ليس بمليونِ سنةٍ، ولا مليارِ سنةٍ، ولكنه اللانهاية، إن العقلَ لا يقدرُ أن يدركَ معنى الخلودِ، معنى السرمدِ الأبدي، ولكنَّ أهلَ الجنةِ