الخطبة الثانية
  فنظر إلى ذلك القرطاسِ فانحنى إليه، والتقطَهُ مِن الأرضِ، ونفضَ عنه الغبارَ، ونظرَ فيه فإذا اسمُ اللهِ فيه.
  تأملَ خطَّه ودققَ النظرَ في فحوى ما كُتب فيه؛ فإذا اسمُ الله تباركَ وتعالى قد كُتِبَ فيه، فبكى ذلك الرجل، نَعَمْ بكى - لما قرأَها - رغمَ أنه كان مسرفاً مذنباً من أهلِ العصيانِ، وبالرغمِ من ذلك بكى وقال: سبحانَ اللهِ؛ يُهانُ اسمُك هنا؟ لا واللهِ.
  فرفعَ الورقةَ، وذهبَ بها إلى البيتِ، وطيبَها، وعطرَها ومسحَ الترابَ عنها، ووضعَها في مكانٍ نظيفٍ، فلما أمسى سَمِعَ هاتفاً - كما رُوِيَ يقول: يا مَن طيبَ اسمَ اللهِ وعظمَ اسمَ اللهِ ليعظمَنَّ اللهُ اسمَك.
  وصدق اللهُ القائلُ: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
  فكانت هدايتُه بعدَ تلك الواقعةِ، وتابَ إلى اللهِ توبةً نصوحاً، فأصبحَ من أكبِر الزهادِ، ومن أعظمِ العبادِ الذين يُضْرَبُ بهم المثلُ وتُشَدُّ إليهم الرحال.
  ومن المواقفِ التي تُعطينا الدروسَ وتمدنا بالعظةِ بكلِّ ماله صلةٌ بكتابِ اللهِ وتعظيمِه؛ ما رُوِيَ: بأن رجلاً مَرَّ ذات يومٍ، فوجد في طريقِه رجلاً قد سَكِرَ حتى الثمالة، قد صُرِعَ على الأرضِ، وهو يتقيأُ ورائحةُ الخمر تفوحُ من فمِه، وهو يقرأُ القرآنَ، فرأى ذلك الرجلُ ذلك المنظرَ، وقال في نفسِه: كيف يخرجُ كلامُ اللهِ الطاهرُ من ذلك الفمِ النجسِ، ومن بينِ تلك الرائحةِ العَفِنَةِ، فأخذ له دلواً من ماءٍ وأخذَ يصبُّه على فمِ ذلك السكرانِ ويغسلُه - تعظيماً لكلامِ اللهِ وإجلالاً وتقديساً لآياتِه المباركةِ. {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}.
  عبادَ الله: إنكم في يومٍ عظيمٍ ويومِ عيدٍ كريمٍ شَرَّفَه اللهُ وكرمَه على سائرِ الليالي والأيامِ، فأكثروا فيه من الصلاةِ والسلامِ على نبيِّكم خيرِ الأنامِ امتثالاً لأمر اللهِ القائلِ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.