الخطبة الأولى
  يبخلُ حتى بالصلاةِ عليهِ إنْ سمعَ ذكرَهُ أو طُلِبَ منهُ ذلك، فأين هؤلاءِ مِن قولِ رسولِ اللهِ ÷: «مَن ذُكِرْتُ عندَهُ ولم يُصَلِّ عليَّ أبعدَهُ اللهُ»؟! أين هؤلاءِ مِن قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «والذي نفسي بيدِهِ لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليهِ مِن نفسِهِ وولدِهِ والناسِ أجمعين» فكيف لا نذكرُهُ وهو المذكورُ في كلِّ ملأٍ، وكيف لا نصلِّي عليهِ وقد صَلَّى عليهِ اللهُ وملائكةُ الأرضِ والسماءِ، وكيف لا نحبُّهُ وقد أحبَّهُ كلُّ رطبٍ ويابسٍ وحنَّ عليهِ كلُّ حيٍّ وجمادٍ، فقد رُوِيَ أنه ÷ كان يقومُ يومَ الجمعةِ يخطبُ متكئنًا على جذعِ نخلةٍ يابسةٍ، فأشاروا عليهِ بأن يجعلوا لهُ منبرًا يخطبُ عليهِ، وصنعوا لهُ المنبرَ، فلَمَّا كانَ يومَ الجمعةِ صعدَ ÷ على المنبرِ فصاحَ الجذعُ حزنًا لفراقِ رسولِ اللهِ ÷ وحنَّ حنينَ الصبيِّ لفراقِ أمِّهِ فنزلَ رسولُ اللهُ ÷ مِن على المنبرِ وأقبلَ نحوَ الجذعِ فضمَّهُ إليهِ وهو يئنُّ أنينَ الطفلِ حتى سكتَ، سمعَ ذلك أكثرُ من ألفِ صحابيٍّ، فكيف لا يحبُّهُ العبيدُ الأحياءُ وقد حنَّ عليهِ الجذعُ، وبكى لفراقِهِ وهو عودٌ يابسٌ، فالشيءُ يكبرُ في النفوسِ لعظمِ قدرِهِ، ويعلو لعلوِّ منزلتِهِ، ويعلى لعدمِ أمثالِهِ أو ندرةِ نظرائِهِ، فما أجهلَنا بنبيِّنا الذي ألزَمَنا اللهُ بتتبعِ آثارِهِ ومطالعةِ أخبارِهِ وأورادِهِ، وأمَرَنا بالاهتداءِ بهديهِ والاقتداءِ بفعلِهِ والاقتفاءِ لسنتِهِ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، إن من العجبِ العجابِ أنْ نرى كثيرًا منا يجهلُ رسولَهُ ونبيَّهُ جملةً وتفصيلاً، فلا يعرفُ من حياتِهِ قليلًا ولا كثيرًا، بينما تراه قد ملأَ رأسَهُ بقصصِ أهلِ الدنيا وحَفِظَ أشعارَهم وأخبارَهم عن ظهرِ قلبٍ، سَلْهُ عن سيرةِ بني هلالٍ أو قصةِ الزيرِ أو عنترةَ سيجيبُ عليك بكلِّ فصاحةٍ عنها، وعن قصصِ العشقِ والغرامِ ويخبرُك عن الممثلينَ والفنانينَ وسيعرِّفُكَ بالمغنياتِ والراقصاتِ إلى غير ذلك من المخزياتِ، أجارَنا اللهُ وإياكم منها، فيا تُرى لِمَن هذا حالُهُ هل هو من الأحياءِ أم في الأمواتِ؟ هل بقيَ لهُ عقلٌ يميزُ بهِ أم صارَ كالجمادات ِ؟