سبائك الذهب في المواعظ والخطب،

أحمد أحسن شملان (معاصر)

الخطبة الثانية

صفحة 326 - الجزء 2

  واصطدمَ الفارسانِ وعلا الغبارُ وثار، وانحبستِ الأنفاسُ، وشخصتِ الأبصارُ، وامتدتِ الأعناقُ تترقبُ عما تُسفرُ عنه المبارزةُ، ولمن تكونُ الغلبةُ، وما هي إلا ساعة فإذا بصوتِ الحقِّ يصدعُ مِن بينِ ظلمةِ الغبارِ: (اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ) فتهللتْ وجوهُ المسلمين بالبشرى، وابتهجتْ قلوبُهم، وانقشعتْ عنهم سحائبُ الهمِّ والضيقِ وما كانوا فيه مِن الشدةِ، كما قالَ تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}.

  ولكَ أنْ تسألَ عنه يومَ خيبرَ من فتحَ حصونَها وهدَّ أركانَها، يومَ برزَ مرحبُ إلى الميدانِ وخافتْهُ الفرسانُ، وعجزتْ عن ردِّهِ الأبطالُ حتى قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: «لأعطينَّ الرايةَ غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ، كرارٌ غيرُ فرارٍ يفتحُ اللهُ على يديهِ» فلما أصبحَ الصباحُ نادى: «أين عليُّ بنُ أبي طالبٍ؟»، فقيل: إنه أرمدُ، فقال ÷: «أرسلوا إليه» فجاءه عليٌّ # يقودُهُ رجلانِ وهو لا يبصرُ من شدةِ الرمدِ.

  فبصقَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ في عينيهِ فبرئَ مِن ساعتِهِ بإذنِ اللهِ، فأمرَهُ بمناجزةِ القومِ بعدَ أن يدعوَهم إلى الإسلامِ، فانطلقَ عليٌّ نحوَ الحصنِ فبرزَ إليه مرحبُ وكان يُعَدُّ بألفِ فارسٍ، فنازلَهُ # وبارزَهُ فقتلَهُ وفَرَّقَ جيشَهُ وفتحَ الحصنَ، وعادَ إلى رسولِ اللهِ ظافراً منصوراً.

  عبادَ الله:

  إن المقامَ لا يتسعُ لذكرِ مناقبِ الإمامِ عليٍّ ومواقفِهِ الخالدةِ، ومهما تحدثْنا وقلنا في حقِّهِ فهو قليلٌ بجنبِ ما بذلَهُ في خدمةِ هذا الدينِ، ولكن الذي يجبْ أن نعلمَهُ هو أن عليًّا # لم يكن حربُهُ وجهادُهُ من أجلِ الغنائمِ والأموالِ، ولا حبًّا في الزعامةِ والسلطانِ، ولا طمعاً في جاهٍ أو سمعةٍ أو رياسةٍ كما قال ابن تيمية: إن